حشد كبير من المسلسلات الدرامية المنتجة في دول الخليج عرضت على شاشات محطاتنا التلفزيونية وحتى على شاشات بعض المحطات العربية، مثل محطتي إل بي سي والمستقبل اللبنانيتين، في شهر رمضان المبارك هذا العام، وربما بنسبة فاقت النسبة المنتجة في الأعوام السابقة· وهذه مسألة تعكس الكثير من الجوانب الإيجابية في مجال الانتاج الدرامي التلفزيوني، ومن ذلك على سبيل المثال، الاهتمام من قبل محطاتنا التلفزيونية بالإنتاج الخليجي وبالفنان الخليجي ، وإعطائهم مساحة يستحقونها على شاشات تلفزيونات بلدانهم· كما أن بث مثل هذه الأعمال على بعض الشاشات العربية لا شك أن له هو الآخر بعض جوانبه الإيجابية في مجال تبادل الأعمال والتعرف، في أقل تقدير، على اللهجات العربية المختلفة والتعود عليها· غير أن مضامين تلك المسلسلات يستحق من المهتمين بها، سواء في مجال الإنتاج أو حتى في مجال المشاهدة، إعطاءها الكثير من الاهتمام والتحليل، وذلك حتى لا نقع دوما في سلبيات ينتقدها الباحثون والمهتمون بمجال الإنتاج الدرامي بشدة في بلداننا وحتى في بعض البلدان الأخرى· وسنحاول هنا إلقاء الضوء على بعض ما يمكن اعتباره من الجوانب السلبية المهمة في مثل تلك المسلسلات·
النقطة الأولى التي يلاحظها الباحث، والمشاهد المهتم أيضا، أن هناك تركيزاً كبيراً في المسلسلات الخليجية على الكثير من المشكلات العائلية والشخصية، وتضخيمها بشكل كبير أحيانا· ونحن على يقين تام بأن مجتمعاتنا، وإنساننا أيضا، لا يخلون من المشكلات العائلية والشخصية، حالهم في ذلك حال كل شعوب الأرض، ولكننا ندرك أيضا، وكمتخصصين في مجال الإعلام تحديدا، أن الأعمال الدرامية حين تركز بشدة، وبكميات كبيرة على المشكلات الموجودة في المجتمع، والتي ربما لا تكون مشكلات تشمل كل قطاعات المجتمع وأفراده، فإنها تعمل، ليس على التقليل من تلك المشكلات، أو معالجتها، وإنما على العكس من ذلك، انتشارها وحتى استفحالها·
النقطة الثانية التي أود إثارتها هنا، وللمرة الثانية في مقالاتي، إنني كنت قد كتبت حولها قبل هذه المرة ولم أجد لها صدى يذكر، هي أن معظم تلك المسلسلات، إن لم يكن كلها تقريبا، لا تخلو من مشاهد عنف ضد المرأة· وهذه نقطة خطيرة يجب التنبه لها والعمل على إزالتها ونقدها بشدة· إذ، وكما قلت في الفقرة السابقة، إن نشر الأمور السلبية والمشكلات الخطيرة على الشاشة، وإن ادعى منتجوها والعاملون عليها أنهم يحاولون من خلال عرضها معالجتها، إلا أن النتيجة الخطيرة التي تشير إليها دراسات الإعلام (والتي هي في الغالب لا يهتم بها أو لا يقرؤها غالبية من يشتغلون في هذا المجال ) هي أن نشر مثل هذه الأمور على الشاشات يؤدي في الغالب بكثير ممن يشكل الإعلام المرئي مرجعيتهم الأساس في الحياة، وهم الغالبية في مجتمعاتنا، يؤدي بهم إلى تبني المواقف التي يشاهدونها وتمثلها، أو أنه يؤدي بهم، في أقل الاحتمالات، إلى تقبل تلك الأمور في حياتهم واعتبارها جزءاً من صيرورة الحياة ومن أمورها العادية· ولأننا نعيش في مجتمع يمر بتحولات عديدة وتتزعزع فيه الكثير من الركائز، خاصة في مجال القيم، فإن إشاعة مثل هذه السلوكيات، عن طريق وسائل الإعلام المرئية تحديدا، له خطورة كبيرة على كثير من الأفراد في المجتمع، وبالأخص له خطورة لا يستهان بها على الناشئة· إن الكثير من الناشئة في مجتمعنا اليوم قد لا يجدون في الحياة مناخا يدحض لهم السلوكيات المرتبطة بالعنف أو الإساءة للآخرين ويعاملها على أنها مشينة وسيئة، لأن الكثير منهم يعيش في أسر تواجه الكثير من المشكلات والضغوطات، وربما يشكل العنف في حياتها إحدى وسائل التنفيس التي لا تستطيع تفاديها·
وهنا لا بد لي من أن أضع بعض اللوم على مؤسسات مجتمعنا المدني، بخاصة الجمعيات النسائية والجمعيات المعنية بحقوق الإنسان، لعدم تصديها لمثل تلك الممارسات، في حين أنه في دولة الباكستان مثلا، سعى الاتحاد النسائي الباكستاني، ومن خلال احتجاجات كثيرة، ومن خلال رفع عريضة إلى برلمانهم، سعى إلى إصدار قانون يمنع المشاهد التلفزيونية التي تظهر فيها ممارسة أي شكل من أشكال العنف ضد المرأة في الأعمال المنتجة في باكستان· وذلك حرصا منهم على منع أي شكل من أشكال تلك السلوكيات في المجتمع وإدانته· في حين أننا لم نسمع حتى عن ندوة أو خطاب ظهر من أي من جمعياتنا النسائية أو غيرها موجه للعاملين في مجال الإعلام المرئي ويتناول مثل هذه المواضيع·
النقطة الثالثة التي أتمنى أن تجد لها أيضا شيئاً من الاهتمام في المستقبل حين العمل على إنتاج مثل هذه المسلسلات، وهي الحذر من التركيز على تصوير نمط واحد من أنماط الحياة على أنه هو النمط الأوحد الذي يعيشه الإنسان الخليجي وخلق صورة له تجعل منه وكأنه النموذج الأوحد الذي نعيشه وهذا النمط متمثل في الثراء والاهتمام بالمظاهر والدوران حول الذات والمشكلات الشخصية· إن غالبية المسلسلات الخليجية تصور البشر، أهل الخليج تحديدا، ومن خلال تصوير أنماط الحياة المتمثلة في العيش في البيوت الفخمة والكبيرة واستعمال السيارات الفارهة، وكل المظاهر الأخرى المرتبطة بالثراء، تصور أهل الخليج على أنهم جميعا أثرياء وليست لديهم اهتمامات كبرى في حياتهم، وأنهم سطحيو التفكير، ومعنيون فقط بأمور الطلاق والحب والزواج والميراث، وأحيانا تعاطي المخدرات أو ممارسة العنف· وبطبيعة الحال، كل هذه التصورات تخلق عنا صورة نمطية تعزز الصورة السلبية الموجودة أصلا في أذهان الكثيرين حولنا، والتي لا ترى فينا إلا أناساً أثرياء، في حيرة من الوسائل التي نريد أن نصرف أموالنا فيها، وأننا سطحيون وغير معنيين بالقضايا الكبرى والمهمة التي تواجهها البشرية، أو يواجهها العرب تحديدا· كما أن التركيز على هذا النوع من الأنماط لا يخلق فقط لدى المشاهد وهم أن من يعيش في الخليج، وبخاصة من أهله، هم أناس أثرياء مترفون ومرفهون، بل هو في الحقيقة يشكل حجابا يخفي وراءه التنوع الكبير في أنماط البشر في الخليج وفي طبيعة اهتماماتهم في الحياة، ومستوى ونوع تعاطيهم لأمور كثيرة، ومنها الاهتمامات الفكرية والسياسية والحياتية كافة، وحتى أنماط عيشهم المختلفة ونوع مستوى الحياة الذي يعيشه الكثير منهم·
ويبقى السؤال المهم، هل ستجد هذه الملاحظات، وهي ملاحظات أرى أنها جديرة أن يتم الاهتمام بها، من قبل المسؤولين في وسائل الإعلام تحديدا، من يأخذها بعين الاعتبار، أم أننا سنبقى نعاني من الفجوة الكبيرة القائمة بين من يعملون في مجال الإعلام ومن يدرسون تأثيراته؟ على الرغم من وجود المؤشرات السلبية الكثيرة التي نواجهها في حياتنا اليومية نتيجة لهذه القطيعة·
جامعة الإمارات |