لعلني قد ذكرت لكم مرة في أحد مقالاتي السابقة الموقف الذي حدث لي وأنا أتقدم للامتحان المكثف لنيل درجة الماجيستير في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأميركية، والذي أستعيده هنا مرة أخرى للمغزى الذي أريد الحديث حوله· في ذلك الامتحان طرح عليٌ الأستاذ المشرف على دراستي السؤال التالي "لنفترض أن جامعة الدول العربية قد اختارتك لتكوني المخططة لاستراتيجية شاملة تسعى من خلالها لتغيير صورة العرب والمسلمين في الولايات المتحدة والغرب، ما الذي ستفعلينه لتحقيق هذا الهدف؟ وأذكر أنني ابتسمت وقتها وقلت له "إن هذه المهمة صعبة، إذا لم تكن مستحيلة"· صدم الأستاذ من ردي، مثلما صدم أستاذ آخر لي كان من ضمن لجنة الامتحان، صدموا، لأن برنامج الماجستير الذي اشتغلت عليه والذي تحمس له منذ البداية أساتذتي، كان يتضمن، ضمن برامجه، تركيزا أساسيا حول الكيفية التي توضع فيها استراتيجيات الإعلام من أجل التأثير على ثقافة المتلقي والترويج للأفكار الجديدة، وأيضا التصدي للأفكار التي يراد تغييرها أو تصحيحها، إلى آخر منظومة دعاوى برامج الإعلام والتنمية· وموقفي في الرد لم يأت من دحض إمكانية التغيير، أو إلغائها، ولكن ردي جاء من منطلق الرؤية العميقة لطبيعة البيئة التي يفترض أنني سأعمل بها· قلت لأستاذي حين رأيت دهشته، أن هذه المهمة صعبة، أولا لأن تاريخ تشويه صورة العرب والمسلمين في الثقافة الغربية تاريخ طويل وبحاجة إلى جهود أكبر من قضية الإعلام فقط· وثانيا، نحن في مرحلة ما سمي بـ "ما بعد" الحرب الباردة، وهي مرحلة تحتاج فيها الولايات المتحدة، تحديدا، والدول الغربية عموما، إلى صناعة عدو، ويشترط هنا لصناعة هذا العدو أن تكون شعوب هذه الدول على جهل كبير به وبثقافته، وهذا ما هو حادث بالنسبة للشعوب الإسلامية·
شعوب الدول الغربية، ومنها الولايات المتحدة لا تعرف الكثير، ولا حتى القليل أحيانا، عن الإسلام· وهذه آفة يشترك فيها الكثير ممن هم في صدارة المجتمع من المفكرين والأساتذة، حتى أولئك المدعين التخصص في دراسات الشرق الأوسط، وليس فقط العامة من الناس· ولي تجربة شخصية في هذا المجال· ففي أثناء دراسة برنامج الماجستير في الإعلام والتنمية، كان مطلوب منا، نحن الملتحقين بالبرنامج، أن نختار منطقة من العالم لتركيز جزء من دراستنا عليها· وبالطبع اختار كل منا المنطقة المعني بها· فزملاؤنا الأفارقة، على سبيل المثال اختاروا أفريقيا، وزملاؤنا من دول أميركا اللاتينية اختاروا بلدانهم، واخترت أنا منطقة الشرق الأوسط· وقد تم تعريفي على الاستاذ الذي قيل لي أنه هو الذي يطرح الدروس المرتبطة بهذه المنطقة، وأنه أحد المهتمين والمتخصصين فيها· وبالطبع كان من المهم أن أسجل في كل المساقات التي يقدمها ذلك الأستاذ حتى أغطي الساعات المطلوبة حول التخصص· وأول ما لفت نظري في ذلك الشخص أنه لا يقرأ العربية ولا يعرفها بشكل جيد· وهذه نقطة لم تكن لصالحه، لأنه يفترض أن من يتصدى لدراسة منطقة عليه أن ينطلق في الأساس من أبجديات شروطها، ألا وهي دراسة لغة المكان الذي يتخصص فيه· فمعرفة لغة المكان الذي ندرسه هي المفتاح الذي يتيح لنا التعرف على ثقافة ذلك المكان والأفكار الموجودة فيه· وهذا شرط لم يتوافر في أستاذي ذاك، وهو ما يعتبر من النقائص العلمية المهمة لدى بعض الباحثين في شؤوننا· وإشكالية هذه المسألة، علميا أنها تنطلق من فكرة الاستهانة والاستخفاف بثقافات الآخرين· وهي إحدى الآفات الموجودة في الكثير من الأساتذة، الأميركان تحديدا، حيث ينطلق المتصدي في هذه المجالات من أن الشعوب التي يدرسها لا تمتلك الثقافة التي يفترض منه التخصص في لغتها، بل هو، بما يملك من معارف يعتبرها كونية، حتى وإن كانت في الحقيقة ضحلة وضئيلة، قادر على فك رموز تلك الثقافات ومعرفة خصائصها· وهذا إدراك ثبت، وتثبت الأيام، أنه إدراك قاصر، بل ومسؤول عن الكثير من الأخطاء والتجاوزات التي تحدث في سياسة الدول الغربية، تجاه الشرق تحديدا·
إن المشكلة المركزية التي يعاني منها الكثير من الباحثين الغربيين في شؤون الشرق الأوسط، ومنهم ذلك الأستاذ، أنهم ينطلقون من موقف تحيزي مسبق، بالذات تجاه الإسلام· ولقد دخلت في حوارات كثيرة مع أستاذي، وهو المدعي أنه يعمل في مجال الحوارات بين الأديان، تركز معظمها أولا على إفهامه أننا، كمسلمين، لابد من أن يبدأ إيماننا بالاعتراف بكل الأديان الأخرى، وبالذات اليهودية والمسيحية، وأن إيماننا لا يكتمل بدون هذا الاعتراف، حيث إن الإسلام، في جوهره، كما قلت له، مرتكز حول حقيقة واحدة، الا وهي الاعتراف بوجود الخالق والسعي نحو أن يعرف الإنسان شروط وحدود وجوده في الكون، وأن يتبع الفطرة التي فطره الله عليها· وهذه المسألة، اتباع الفطرة، هي أيضا نقطة المركز في الثقافات الشرقية الأخرى التي تتقاطع مع الإسلام، وإن اختلفت في بعض التفاصيل، ومنها (التاوية)، منهاج الصين التقليدي مثلا، وما انطلق منها، مثل فلسفة الزن المتبعة في اليابان، وغير ذلك من الفلسفات·
النظام الليبرالي، كما هو معروف في الدراسات السياسية، يبقى دوما بحاجة إلى خلق عدو له حتى يستطيع الإبقاء على تماسكه وتأييد جماهيره لبرامجه، والتي لا تخلو في الكثير من الأحيان من التسلط على دول أخرى ومحاربتها، وحتى مهاجمتها، ومن هنا تأتي الحاجة لصناعة مثل هذا العدو· ولقد اشتغلت دول الغرب والولايات المتحدة في السابق على جعل الشيوعية، تحديدا، عدوها الأول، ولم تركز في محاربتها للأنظمة الشيوعية على شيء بقدر تركيزها على نقطة الإدعاء أن تلك الأنظمة لا تعترف بوجود الخالق، ولم تركز على التعريف والتفريق في الأنظمة الاقتصادية· هذا على الرغم من أن فكرة الإلحاد موجودة في جوهر الفكر الليبرالي الغربي، العلماني، والمنطلق من كون الإنسان، وليس الخالق، ما يشكل المرجعية الأولى في الكون، وأن منه تنطلق القوانين والأنظمة· لكن الدول الغربية استثمرت هذه النقطة تحديدا لجعل شعوب أخرى تبتعد في منظومتها عن الدول الاشتراكية وتعاديها، هذا مع العلم بأن دول أوروبا الشرقية بقيت أكثر تدينا من مثيلاتها الغربيات·
وفي آخر المطاف، لا بد من القول أن الغرب، بما نعرفه عنه، ليس كتلة واحدة تتركز في نظم سياسية تحمل في جوهرها مواقف متحيزة ضد الشرق، والإسلام تحديدا· بل إن هناك في الغرب من هم على إدراك تام من أن الحفاظ على السلم والحياة الحرة في الكون يشترط الانطلاق من النظرة الشمولية لكل العناصر الموجودة على سطح الأرض والتعامل معها بما تستحق من احترام· وهؤلاء هم من على جهاتنا المعنية بمثل هذه القضايا التعامل معهم وتدعيم أنشطتهم، لا أن نقع فيما نقع فيه دوما من أخطاء، وهي اختيار الأشخاص المنطلقين أصلا من الجهل بنا والتحيز ضدنا، وتقديم التبجيل لهم، وهم لا يستحقون ذلك، متجاهلين أو جاهلين باولئك المنطلقين من احترامنا، وهم الأولى بتقديرنا، والساعين نحو تقليص البطش والظلم في الحياة·
* جامعة الإمارات |