حققت الحكومة الـ "إسرائيلية" بعد ثلاثة أسابيع من القتال الشرس أقل من عُشـر أهدافها في لبنان: هدمت بنيتها التحتية، قتلت حسب ادعاءاتها80 من عناصر المقاومة اللبنانية ( أو 43 حسب تأكيدات حزب الله)، شردت أكثر من نصف مليون من منازلهم، هدمت البيوت··· إلخ· دخلت بقواتها البرية الجنوب اللبناني وهي لا تعرف ماذا ستفعل هناك للمرة العاشرة، غير أن أكبر انتصار استطاعت أن تحققه في هذه الحرب كان عن طريق الجو، فقد استطاعت أن تقضي على أكثر من60 طفلا وامرأة كانوا مختبئين تحت الأرض وقد انقطعت عنهم السبل وقد قتلهم قبلها الخوف والجوع والعطش، ولم يخرجوا من مخبأهم إلا جثث مشوهة ومقطعة ورمادية الألوان·
هذا هو الانتصار الوحيد الذي حققته إسرائيل في هذه الحرب·
لماذا؟
لأن البينة التحتية سوف يعاد بناؤها مرة أخرى بشكل أكثر حداثة، ولن تتردد الدول الإسلامية في مساعدة لبنان في هذا الأمر، ولبنان لديه خبرة يشهد بها الجميع في كيفية الخروج من الأزمات·
أما الـ 80 شهيدا من المقاومة حسب قولهم أو إن صحت أرقام حزب الله الذي يعرف جيدا إمكانياته وأعداد رجاله، فإنه رقم لا يساوي شيئا أمام الآلة العسكرية التي خزنتها إسرائيل على مدى 60 عاما من وجودها في المنطقة، فهل نسميه انتصارا عسكريا أن تكون حصيلة كل هذه الغارات المستمرة ليل نهار بأحدث طائرات (الـ إف16 الأمريكية الصنع) وهذه الدبابات المصممة على أحسن طراز التي تطلق كل ثانية قذيفة، لا نعرف تطلقها ضد من؟! وهذا العدد الهائل من الجنود المدججين بكل وسائل الدفاع عن النفس وعشرات الآلاف من الجنود الاحتياطيين الذين انضموا إليهم وهم يزحفون نحو داخل لبنان من جهة الجنوب، وطائرات التجسس وصور الأقمار الصناعية التي تعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة والتي تزود وزارة الدفاع الإسرائيلية بكل حركة تدب على كل شبر من أرض لبنان، فهل هذا يعد انتصارا؟! أما منصات إطلاق الصواريخ فحتى الآن لم تدع إسرائيل بعد أنها قضت عليها، ويبدو أن المقاومة اللبنانية أذكى بكثير (بعد خبرتهم العتيقة في الحرب وفي إيهام العدو) من أن تترك سلاحها الاستراتيجي يقع بين يدي جنود العدو دون الدفاع عنه، والدليل على ذلك أن الصواريخ ما زالت تنهمر بالمئات على المدن الإسرائيلية في الشمال وتحولت وجهتها الآن إلى الجولان المحتل·
وبافتراض أن المقاومة خسرت نصف رجالها ونصف أسلحتها، فإن ذلك لا يعني القضاء عليها، فالنصف المتبقي قادر على أن يعوض خسائره وأن يزيد عدده إلى أضعاف مضاعفة، خاصة في الظروف التي مرت بها لبنان في الأسابيع الثلاثة الماضية، حيث أن التفاف الشعب اللبناني بجميع طوائفه حول حزب الله ودعمه له في حربه جعل منه بطلا قوميا باعتراف الجنود الإسرائيليين أنفسهم، الذين اعترفوا بأن خبرتهم في الحرب والمناورة لا تساوي صفرا أمام شراسة المقاومة الإسلامية! مما حذى بالحكومة الإسرائيلية ووزارة دفاعها إلى الاعتراض على نشر مثل هذه الاعترافات الفاضحة في وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية، فهذه المقاومة شجعت الآخرين على الانضمام إليها للدفاع عن الوطن الذي يراد تسويته بالأرض، أما الحصول على السلاح فليس شرطا أن يتم تزويده بها عن طريق سورية وإيران· فالعالم اليوم يعج بمصانع الأسلحة المتطورة المعروضة للبيع بأرخص الأثمان وهي لن تتردد في بيعه بأسرع وقت ممكن لأي جهة كانت حتى ولو كانت عدوة لها في مقابل الحصول على القسط الأول من قيمة الدفعة، وهذا يعني أن حزب الله قادر على تعويض جميع خسائره المادية والحربية بلمح البصر·
أما الجنوب اللبناني فلن يستطيع أحد التحكم فيه غير حزب الله حتى بوجود قوة دولية، خاصة مع تنامي قوة هذا الحزب الذي يعتبر نفسه محرر لبنان في يوم من الأيام من الاحتلال الإسرائيلي والوحيد القادر على مجابهتها بمفرده وهو الذي دفع ثمن الحرية بدماء أبناء الجنوب، بينما جلست الأطراف الأخرى متفرجة لا أكثر إن لم تكن فيما بعد معادية لاحتفاظه بسلاح المقاومة· فسيفرض حزب الله رأيه وموقفه أكثر مما مضى حتى ولو خرج خاسرا من هذه الحرب، خاصة أنه استطاع بأسلحة تقليدية أن يلحق أضرارا كبيرة بالآلة العسكرية الإسرائيلية·
فماذا حققت إسرائيل إذاً من حربها اللا أخلاقية التي فتحتها ضد لبنان لتحرير جنديين أسيرين؟
تماما ما حققته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، مع فارق لم تنتبه إليه إدارة إيهود أولمرت العسكرية: وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية تحارب على جبهة تقع على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات من حدودها الدولية، وحربها في العراق لا تقع على خط حدودها مباشرة، وإذا لزم الأمر، فإن أساطيلها في المنطقة مهيأة لانتشال جنودها المتبقين (الذين سقطوا في أوحال حرب العراق) وإعادتهم إلى وطنهم، أما إسرائيل فإن مصيرها مرتبط بالمنطقة التي تحيط بها، وهي ربما لا تعي جيدا هذا الأمر، ولا تريد أن تفهم أن الوضع الحالي قابل لأن يتكرر، ولو بعد عشر سنوات وربما بأسلوب مقاومة مفاجئ أيضا، وهذا يعني أن دخول لبنان حاليا انعكس سلبيا ضد مصلحة إسرائيل· وما هو أغرب، أن تظل إسرائيل حكومة وشعبا مخدوعة في هذه الحرب وما زالت غافلة عن الأسباب الخفية التي دعت حكومة بوش على تشجيعها في هذا المسار المتعثر، بل دعمها بالأسلحة الأكثر فتكا بالمدنيين وليس بالمقاومين، وأن نية الرئيس الأمريكي لا تتعدى رغبته في توريط إسرائيل في حرب على هذا المستوى لتخفيف الضغط عليه من نتائج الحرب التي شنها على العراق وما تبعها من فضائح أخلاقية ومالية وسياسية وعسكرية ومخابراتية ما زالت تكشف عن جديد في كل ساعة! إضافة بالطبع إلى المردود المادي من بيع أسلحة بمليارات الدولارات للمنطقة·
فليس حال إيهود أولمرت بأحسن من حال جورج بوش جونيور هذه الأيام، خاصة أن كليهما يملكان سيرة غير مشرفة في ملفات التجنيد العسكري، فكيف بإدارة الحروب على مستوى المقاومة؟
الحرب الدائرة في لبنان لم تُحسم بعد، ونهايتها بدأت بتراجع توني بلير عن موقفه عندما اكتشف أن أولمرت ربما دخل حربا خاسرة وغير مؤهل لها بدعم من جورج بوش، مشابهة لتلك التي يخوضها هذا الأخير وإدارته العسكرية بدعم من اللوبي الصهيوني منذ سنوات في العراق، وأن بلير سيكسب من دعمه لحرب أولمرت في لبنان ما كسبه من دعمه لبوش في العراق: تنامي التطرف والإرهاب على أرض المملكة المتحدة والخروج صفر اليدين من الغنيمة وربما الخروج من الحكومة·
وكما نكرر في كل مرة، فإن مثل هذه الحروب ليس بها منتصر ولا خاسر، فالمنتصر هي مصانع الأسلحة في أنحاء العالم، والخاسر هم الأطفال والنساء وكبار السن الذين يتم دفنهم في مقابر جماعية سواء في العراق أو لبنان أو إسرائيل (التي بدأت تذوق طعم موت المدنيين بهذا الشكل)، وإن احتلال أرض الآخرين لم ولا ولن يدوم مهما طال الزمن، وعلى إسرائيل أن تحسب حساب القادم أكثر من حساب الذي مضى أو الذي تحققه الآن، فهي بهذا التصرف تدعم التطرف الديني في المنطقة إلى أبعد حدوده وتزيد من عدد أتباعهم، وهؤلاء رجال ونساء لا يعرفون المساومة في حروبهم ضد أعداء الأمة الإسلامية·
فإذا كانت تبحث عن الأمن وحماية مواطنيها وشمالها وجنوبها، فلن تحصل عليه إلا من خلال الاعتراف بحق جيرانها في القدر نفسه من الأمن وإعادة ممتلكات من سلبت ممتلكاته، وعليها أن تكون أكثر واقعية وهي تعيش الألفية الثالثة: ففكرة الدولة اليهودية العظمى التي يتحدثون عنها في بروتوكولاتهم السرية لم يستطع أيا من رؤساء إسرائيل السابقين أن يحقق شيئا منها·
جامعة الإمارات
dralaboodi@gmail.com |