تبجحت وزيرة خارجية المحافظين الجدد ووكلاء الصهيونية بالإنابة في غمرة الحرب القذرة التي تشنها إسرائيل على لبنان بضرورة نشر الفوضى البناءة باعتبارها مطلباً أساسياً لولادة مشروع الشرق الأوسط الجديد· يبدو أن الإدارة الأمريكية كانت تنتظر حدثاً مهماً في المنطقة يفتح أمامها الطريق لطرح مشروع قديم - جديد على جدول أعمالها يمكنها من صرف نظر العالم عن النتائج التخريبية والأفق المسدودة التي ترتبت على احتلالها لكلٍ من العراق وأفغانستان وعن نتائج مشروع أوسطها الكبير الذي طرحه بوش عام 2004 وقام بتسويقه دولياً عبر قمة الثماني الكبار وحلف شمال الأطلسي وإلى قمة الاتحاد الأوروبي، هذا المشروع الذي كان يهدف لدفع مسيرة الديمقراطية في العالم العربي، أدى إلى تقدم أعداء الولايات المتحدة الأمريكية الإسلاميين في كل انتخابات عربية أجريت خلال عامي2005 و 2006 فبعد أن كان شرق أوسط كبير أصبح شرق أوسط جديد، ولكن ما ينبغي توضيحه أن المشروع ليس بالجديد فقد سبق الإدارة الأمريكية إلى طرحة قادة إسرائيليون كان أبرزهم وأهمهم على الإطلاق شمعون بيريز عندما ضمن أفكاره كتاب صدر عام 1993 يحمل العنوان نفسه، وكان يهدف إلى إعادة تشكيل هوية جديدة للمنطقة وذلك بضم إسرائيل للمنطقة والقضاء على فكرة العروبة عن طريق التخلص من الجامعة العربية على أساس إن إسرائيل دولة لا يمكن أن تصبح عربية، ولكن من الممكن أن تتحول الجامعة العربية إلى جامعة شرق أوسطية·
فإن اختلفت مسميات المشاريع الشرق أوسطية من واسعة إلى جديدة فجميعها تهدف للقضاء على فكرة العروبة نهائياً، وتسليط إسرائيل على العرب وإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة، وإعادة توزيع الأدوار الرئيسية وفقاً لخدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية· أما عن الوسيلة في تحقيق هذا المشروع فحسب ما يراه المحافظون الجدد سيكون عبر ما يسمى بالفوضى البناءة أو الخلاقة، ومن المعروف أن هذه النظرية وجدت فعاليتها بعد أحداث سبتمبر، وهي تقوم على فلسفة سياسية تفترض وجود خطر داهم من عدو مجهول يهدد الأمن القومي الأمريكي في كل لحظة فيجب أن تخاض الحرب الوقائية ضده أو ضد كل من يتصور أنه عدو من قبل مراكز التخطيط الاستراتيجي في البيت الأبيض، ووفق هذا المفهوم فنظرية الفوضى البناءة تعني السعي الاستباقي نحو تفكيك كل المواقع والجغرافيات المفترض أنها تشكل مصادر تهديد لأمن ومصالح أمريكا، ويتم إعادة تشكيلها فيما بعد وفقاً للمصالح الأمريكية·
فعندما نتحدث عن الشرق الأوسط أول ما يعنيه ذلك وفق هذه النظرية هو سلخ بعض العرب عن بعض العرب الآخر، وتحديدا سلخ عرب شمال إفريقيا عن العرب الآخرين، لأنك إذا حددت نطاق الشرق الأوسط الجديد لن يكون عرب شمال إفريقيا من ضمنه وبالتالي فصل العرب عن العرب، وعندما تقول شرق أوسط كبير أو جديد عليك أن تضم شعوبا غير عربية إلى الشرق الأوسط، وتحديداً تركيا وإيران وقبرص وإسرائيل وربما باكستان وأفغانستان وبذلك تكون فكرة العروبة انتهت فالعروبة هاجس لإسرائيل منذ أيام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر لأنه أشهر هذا السلاح في وجهها ويراد الآن القضاء عليها نهائيا وعليه تم طرح شرق أوسط جديد وكبير·
أما عن آلية العمل وفق هذه النظرية فيكون عن طريق إحداث ثورة اجتماعية بصورة قسرية، وتحت شعار الديمقراطية متخذين من الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية مدخلاً إلى ذلك، وذلك بحجة عدم استطاعة هذه الأقليات التعايش معاً وبالتالي من حق كل أقلية أن تستقل لوحدها، وهذا ما ذهبت لتأكيده مجموعة من التقارير العسكرية الأمريكية السرية حيث أكدت على أن الحدود التي رسمها الأوروبيون سواء البريطانيين كانوا أم الفرنسيين في أوائل القرن العشرين باتت تشكل عبئاً على الاستراتيجية الأمريكية، لأنها أدت إلى قيام كتل قومية كبيرة ومبعثرة تضم اثنيات وطوائف مختلفة في كيانات غير مستقرة مما ينجم عنه حالة من عدم الاستقرار والحل الذي يعيد الاستقرار إلى المنطقة ينطلق من مبدأ تفكيك هذه الأقليات وإعادة جمع كل أقلية ضمن كيان مستقل، مما يعني إنهاء للدولة الوطنية الموجودة اليوم· وهذا ما يؤكد عليه برنارد لويس أحد المستشرقين الكبار، عند الحديث عن كيفية الحكم في العراق وتكوين نظام سياسي عراقي إذ يؤكد أنه لا بد أن نعمل على أساس الكيانات السياسية الكنتونية والقائمة إما على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو المذهب وبالتالي تكون هي إحدى الآليات المهمة لتفكيك البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي، ومن ثم إعادة بناء النسيج الاجتماعي بما يتلائم مع المصالح الأمريكية والمشروع السياسي الأمريكي في المنطقة·
وما ذهبت إليه أمريكا في العراق تنوي تطبيقه في بقية البلدان العربية لأن حساسية الطائفية موجودة في كافة الأقطار العربية بما فيها لبنان خاصة بعد أحداث مقتل الحريري وخروج القوات السورية منه حيث بدأ الحديث الطائفي يعيد نفسه على الساحة اللبنانية ولا يخفى على أحد أن أهم أهداف الحرب المشتعلة اليوم إثارة الفتنة بين السنة والشيعة، فإسرائيل لن تتوقف عن الحرب إلا بفتنة بين السنة والشيعة، وهذا ما ترجمته مواقف بعض الدول العربية·
وللأسف تنبري بعض أقلام الكتاب لتكيل السباب والشتائم في وجه القراء العرب بأنهم إذا قرؤوا لا يستوعبون مشاريع أمريكا والغرب الشرق أوسطية الكبيرة منها والجديدة ولا يستوعبون فائدة الآلة العسكرية الإسرائيلية ومن خلفها الأمريكية وهي تدمر وتهدم وتقتل بكل وحشية، وخاصة تلك الأقلام التي تحتضنها قلاع المحافظين الجدد ومراكزهم البحثية·
مركز زايد للتراث والتاريخ |