مرة أخرى تضيف المقاومة اللبنانية بقيادة السيد حسن نصر الله رصيداً جديداً إلى سجلها الوطني والتاريخي والقومي ضد دولة إسرائيل التي تمارس الإرهاب والإجرام والبطش والعدوان المنظم والمبيت، ومنذ إنشائها قبل عقود طويلة خلت· هذه المرة أيضاً تتدفق الجماهير العربية والمسلمة بحماس متأجج منقطع النظير إلى الشوارع والساحات العامة متحديةً القوانين التي وضعتها الأنظمة الحاكمة من أجل كبح جماح أية هبة جماهيرية حاشدة تعبر فيها الجماهير عن رأيها في مسلسل الحوادث العاصفة من حولها· منذ الأسبوع الأول للحرب حقق حزب الله نصراً عسكرياً بيناً حين فاجأ العدو الإسرائيلي بصموده الأسطوري في أرض المعركة، وفي قدرته على الرد بفعالية على الهجمات الإسرائيلية البربرية الهمجية وبشكل رئيسي ومركز على بيوت وقرى وضواحي مدن السكان المسالمين العزل· يقف حزب الله المحدود الإمكانيات العسكرية وحيداً في المعركة أمام قوة إقليمية عظمى في المنطقة تدعمها أقوى دولة في العالم بالمال والسلاح وأفضل العتاد والمعلومات السرية والغطاء السياسي، وبشكل مطلق وغاية في التمادي والعناد· لا يُسمح! أن يساند حزبَ الله في الحرب هذه حتى أقرب الحلفاء إليه، سورية وإيران وقليل من الدول العربية الأخرى، بسبب الضغط الأمريكي والغربي الذي يهدف إلى عزل حزب الله بالكامل وجعله فريسة سهلة أمام آلة الحرب الصهيونية عالية التقنية والإمكانيات· يصاحب ذلك توجيه إعلام الدول العظمى كل أنواع التهم الرخيصة المضللة المبتذلة ضد حزب الله، ومنها تهمة الإرهاب والتي هي في الواقع صفة ملازمة لحالة إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل ضد الملايين من الفلسطينيين واللبنانيين وبقية العرب وعلى مدى عقود طويلة من الزمن·
لم تجد الأنظمة العربية أي شيء فاعل تقدمه لدعم المقاومة اللبنانية التي تدافع عن الكرامة اللبنانية والعربية والإسلامية والإنسانية، حتى أن جهود بعضها الشكلية لوقف العدوان الغاشم على لبنان باءت بالفشل قبل أن ترى النور في ظل التحريض والعناد الأمريكيين لاستمرار العدوان· وقفت الأحزاب اللبنانية السياسية على الحياد وقسم منها أيّد الطرح السياسي الإسرائيلي-الأمريكي ضد حزب الله بسوق حجج ومبررات كثيرة ذات رؤية ضيقة· في ظلال وضع ميوؤس منه كهذا تمضي إسرائيل، وفي حربها بالنيابة عن الإدارة الأمريكية بارتكاب كل أنواع الحماقات وأبشع صنوف الجرائم ضد المدنيين العزل، مغلفة أفعالها بغيوم من الأكاذيب الإعلامية المصاحبة للحرب والعدوان·
تقف المنظمات الدولية والإقليمية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية عاجزة أمام العدوان الإسرائيلي بسبب الدعم الأمريكي اللامحدود له· لا يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل يتبنى الناطقون باسم تلك المنظمات مواقف تتسم بالنفاق السياسي لصالح إسرائيل والإدارة الأمريكية سعياً منهم لإرضاء خاطر المندوب الأمريكي في مجلس الأمن "جون بولتون" الذي يقرر ويحكم ويرسم ويملي شروطاً للتعجيز لوقف العدوان الإسرائيلي ناعتاً المقاومة اللبنانية بالمنظمة الإرهابية وواصفاً إسرائيل بدولة الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان· كيف للدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن أن تحفظ لنفسها وأمام شعوب العالم ماء وجهها حين تقبل بالغطرسة والصلف الأمريكي السياسي في مجلس الأمن، وأن تستمر في حالة خوف ومجاملة للسياسة الأمريكية المنحازة كلياً وبشكل صارخ لإسرائيل!· كيف لتلك الدول أن لا تندد على الأقل بسلوك دولة إسرائيل التي لا تنفك تنذر مئات الآلاف من المدنيين العزل بترك بيوتهم وممتلكاتهم في لبنان أو تدمرها فوق رؤوسهم!؟·
لم تتمكن إسرائيل وبعد مضي ما يقارب الأربعة أسابيع على بدء الحرب من الحصول على إنجاز عسكري واحد مهم ضد قوة حزب الله التي تبدو من الضعف بمكان أمام الآلة الحربية الإسرائيلية عدداً وعدةً وعتاداً ولكن الأقوى تكتيكا من الناحية الحربية والأقوى إيمانا بقضية عادلة· تحاول إسرائيل ومن ورائها الإدارة الأمريكية إحداث تصدع وانشقاق في الجبهة اللبنانية الداخلية، أسوة بما نجحت في إحداثه من قبل في العراق عند غزو تلك الدولة واحتلالها؛ لكن الجبهة اللبنانية أظهرت تماسكاً وتوحداً فريداً من نوعه خلف المقاومة في وجه العدوان الإسرائيلي الذي لا يستثني أحداً· بالتوازي مع ذلك تحاول الإدارة الأمريكية حشد ما تتمكن من الأنظمة العربية المهزومة داخلياً من أجل عزل حزب الله وقيادته شعبياً وجماهيرياً عربياً وإسلامياً ودولياً، إلا أن المد الشعبي الجارف وعلى المستوى العالمي المتعاطف مع المقاومة وقيادتها أحبط تلك المحاولات وجعلها تبدو هزيلة حتى بعيون معظم الحكام الذين تعول الإدارة الأمريكية على مواقفهم المخجلة· لقد اكتسحت شعبية السيد حسن نصر الله العالمين العربي والإسلامي، ومن المحيط إلى المحيط، وبصورة عزَّ نظيرها في التواريخ القديمة والحديثة· بات على الأمم والشعوب والقيادات العالمية أن تسعى لمعرفة ذلك السر الذي جعل من حزب الله وقيادته يتبوأ مكانة أسطورية حقيقية وعكس كل التوقعات·
عند الحديث عن وقف لإطلاق النار تبدأ القيادة الإسرائيلية بالحديث عن شروط غير معقولة أو مقبولة لدى الطرف اللبناني، شروط عادة ما يطالب بها الطرف المنتصر في الحرب· لكن يتناسى ساسة إسرائيل أنه في الحرب الحالية يعجز الجيش الإسرائيلي عن تأمين حماية فاعلة لمعظم أنحاء دولة إسرائيل؛ حتى العاصمة تل أبيب باتت الآن تخشى تهديدات المقاومة باستهدافها إذا ما استهدفت الغارات الجوية الوحشية العاصمة اللبنانية بيروت· وصلت الحالة إلى حالة شبه تكافؤ في توفر عامل الردع الفعال المتبادل بين حزب الله والكيان الإسرائيلي· المقاومة اللبنانية لا تهزم ولا تسحق، ذلك لأنها ليست جيشاً نظامياً له مواقع محددة وأسلحة محددة ورجال تعرف أماكن وجودهم ونطاق تحركهم· تمثل المقاومة اللبنانية ظاهرة شعبية معبرة عن ضمير الشعوب اللبنانية والعربية والإسلامية والمستضعفة وشرفاء وأحرار العالم· كي تقضي إسرائيل على المقاومة الإسلامية اللبنانية بات عليها أن تقضي على مئات الملايين من البشر الذين تنبض قلوبهم الآن على وقع إعلام المقاومة اللبنانية، ومفاجآتها اليومية وانتصاراتها الحالية والمتوقعة· فقط على أشلاء تلك الشعوب من الممكن أن ينبعث شرق أوسط جديد تتوق فيه الإدارة الأمريكية أن ترى حكامه وشعوبه تستجدي مساعدات من إسرائيل والإدارة الأمريكية، وينتظرون صدور القرارات السياسية من تلك الدولتين· على الطرف النقيض من الممكن أن ينهض شرق أوسط جديد فيه تحكم الشعوب أنفسها بأنفسها وتحترم المبادئ والقوانين التي تحفظ حقوق الإنسان بعيداً عن التداخلات الاستعمارية، الإقليمية والدولية·
منذ استقلاله قبل ما يزيد عن عدة عقود تميز لبنان بعلاقات مميزة فريدة من نوعها مع معظم دول العالم، وعلى رأسها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ودون استثناء· يتعرض لبنان الآن لعدوان إسرائيلي همجي يستهدف الإنسان اللبناني والبنية الأساسية التي يعتمد عليها بقاء الدولة على قيد الحياة؛ لا يجد لبنان من يقف بجانبه· توارى الكثير عن الأنظار وعمل اللاعبون السياسيون المحليون والإقليميون والدوليون عمل القطط الجائعة التي تنتظر ما يسقط من مائدة الانتصارات التي تحققها المقاومة اللبنانية الإسلامية أو ما ستؤول الأمور إليه في حال اندحرت المقاومة، لا سمح الله· إذا ما كان من الضروري اتخاذ موقف مشرف إزاء العدوان الإسرائيلي فإن على الأحزاب السياسية اللبنانية أن ترفع السلاح إلى جانب حزب الله في الدفاع عن لبنان· على الحكومات والمنظمات والشعوب العربية أن تتخذ موقفاً أكثر فاعلية ضد العدوان الإسرائيلي الذي يستهدف الهوية العربية والإسلامية على المدى القريب والبعيد· على الدول الأوروبية أن تقف ضد العدوان الهمجي الإسرائيلي إن كانت صادقة في مناداتها لتطبيق السلم الدولي، ومبادئ حقوق الإنسان· على كل تلك الدول أن تستقل في قرارها بعيداً عن أي خوف أو نفاق أو رياء أو مراعاة لمصالح أنانية ضيقة لإرضاء هذا الطرف أو ذاك، على الجميع أن يعلم أن البشرية تعيش الآن في عصر من المفترض أنه وصل إلى الحد الأدنى من الوعي والنضوج العقلي والفكري الإنساني للوقوف ضد كافة أشكال الغطرسة والعدوان، وأن زمان شرع الغابة قد ولّى إلى غير رجعة ومنذ زمن بعيد·
جامعة الإمارات
nasrin@uaeu.ac.ae |