أستميح المفكر "محمود أمين العالم" عذرا عن استعارتي لعنوان أحد كتبه ليكون عنوان مقالي هنا!!
"الإنسان موقف" هو واحد من إصدارات العالم والمفكر "محمود أمين العالم" والذي يستعرض فيه إنجازات ومواقف ثلة من أبرز المفكرين والمبدعين في التاريخ البشري، وهو يرى أن إبداعاتهم كانت دوما مدعمة بمواقف سجلها لها التاريخ، ويتناقلها الناس كمعالم لأيادي وعقول أذكت المسيرة البشرية وأثرتها!
يرى "محمود العالم" أن الإنسان في جوهره موقف، وأن حياتنا الإنسانية يصنعها الفرد الذي يحمل عبقرية الجماعة، وبحسن الإنصات إلى نبضاتها، يحسن اكتشاف إرهاصاتها الخلاقة، ويحسن التعبير عن حكمتها العملية، والتبشير الجديد المتخلف فيها، والنضال من أجله باسم الناس جميعا!
وهو يرى كذلك، أن من هؤلاء من يبرز ويتميز، ومنهم من يظل بين الناس مطمور الاسم، مجهول الفعل، رغم عظمته الإنسانية التي لا حد لها!! وإن تاريخنا الإنساني، حافل بالكثير من الأسماء المتميزة اللامعة، ولكنه رغم هذا، لا يكاد يضم منها إلا باقة محدودة على كثرتها، فما أكثر الأبطال الذين لم يدون اسمهم على مسلة، أو على ورقة بردي، أو على أثر من الآثار التاريخية الباقية!! لعل بعض هؤلاء قد جعل من حياته عند مدخل باب صغير لأسرة صغيرة دفاعا عن أغاني أطفالها، ولعل بعضهم قد أضاء ليلة سعيدة في كوخ بائس، أو فجر أغنية في قلوب دون أن يترك توقيعه عليها!!
يرى "محمود العالم" أن هؤلاء هم الذين يحتفظون بشموخ القامة الإنسانية في وجه العواصف والمحن، وينسجون الدفء والطمأنينة والاستمرار المضيء في تاريخ الإنسان، بتواضعهم ونزيفهم الصامت هؤلاء هم صناع الحياة بحق، بهم يتحرك المجتمع متطلعا إلى العدالة والسعادة والمحبة والحرية والسلام·
نحن جميعا بلا شك قد صادفتنا مواقف أضحت مرادفا لشخصيات!! ليس بالضرورة أن تكون لتلك الشخوص مراكز سياسية أو مقامات اجتماعية، بل يكفي أن يكون لهذه الشخصية أو تلك موقفا يجعلها تقفز إلى صفحة الذاكرة بين حين وآخر!!
أتذكر جيدا هنا موقف والد طالبة المعهد التجاري منذ سنوات قليلة مضت!! تلك الطالبة التي انتهك حرمتها وحريتها بعض من الخارجين عن القانون وحرمة المجتمع والفرد وذلك حين نصبوا محكمتهم في الخلاء، وأقاموا عليها الحد والعقوبة وفقا لعقولهم المريضة! يومها تمادى هؤلاء في محاولاتهم إثارة حفيظة المجتمع على تلك الطالبة البريئة، وكانوا قد استمدوا قوة من تصورهم بأن الفتاة وأسرتها سيلجأون للصمت في مجتمع متلاصق القرابة والعلاقة اجتماعيا وقبليا!! لكن الوالد الموقف بدد - ولحسن الحظ - آمالهم المريضة، وخيب تصوراتهم التي تصورت بأن المجتمع بأسره هو رهن قوانينهم!
يومها لم يكن والد طالبة المعهد التجاري وحده في مواجهة تلك الجماعة، ولم تكن تلك الفتاة هي وحدها الضحية، بل كان مصير حقوق الأفراد، وسيادة القانون كذلك في المواجهة، ولتتضح الصورة شيئا فشيئا فيما بعد·· ولتثبت الأيام تورط تلك الجماعة في قضايا إرهابية وقانونية أخرى!
انتهت الحادثة·· وبقي الموقف! موقف والد أبى أن ينظر للقضية بمنظار شخصي بحت·· فالخطر لم يكن موجها له ولابنته وحدهما·· بل كان خطرا كان المجتمع بأسره سيدفع ثمنه لو كان الأب قد استكان واستسلم!
ومثلما كان لوالد الفتاة الفاضل موقفا لايزال محفوظا في الذاكرة فقد استطاعت الفاضلة· "نورية الصبيح" كذلك أن تسجل موقفا جبارا آخر حين وقفت وبشموخ في وجه المنتهكين لحريات الآخرين، وأبت أن يملي عليها الآخرون شروطهم! وعلى الرغم من رهان الكثير بأنها تقف في مواجهة قضية خاسرة، فإنها أبت أن تستسلم أو تتراجع، مسجلة بذلك موقفا سيحفظ لها، وسيحفظ لكثيرات غيرها حقهن في أن يحتفظن بخصوصياتهن العقائدية والإيمانية، دون إملاءات وشروط المتأسلمين الساسة!
ويبقى الإنسان أسيرا لمواقف عبرت حياته أو حياة الآخرين، مواقف يستشف من خلالها رؤية ناضجة، ليزيد معها إداركه بأن الإنسان في خلاصته يبقى موقفا يلتصق بالذاكرة!
suad.m@taleea.com |