| "هؤلاء الجادون المتجهون·· الذين يعتقدون بأن أفضل طريقة لدعم العمل الفدائي وتحرير الأرض المحتلة وبناء الصناعات الثقيلة وتطور مناهج التربية المدرسية·· هي أن يظلوا مقطبين من المهد الى اللحد·· ولا يدعون أحدا يرى أسنانهم الجادة إلا في المناسبات الكبرى·
هؤلاء لا أكتب لهم ولا أقرأ·
أكتب للآخرين·· للأنقياء أكثر من المطر قبل أن يلامس الأرصفة!! لمن لا يعرفون إذا كانت (اللوموند) تصدر في باريس أو في أبو ظبي!! للذين يولدون ويموتون من دون أن يغادر أحدهم قريته·· أو يتخلى عن أصدقائه·· أو يغير نوع تبغه·· أو يبدل طريقة استلقائه على عشب البيادر أو بلاط السجون!! للعامل الذي ينهي فطوره على ظهر دراجته!! والخادمة الغبية التي تغطي وسادتها بدموعها كلما أسرت أميرة في مسلسل إذاعي·· ولا تهنأ بنوم حتى يفرج عنها في الحلقة المقبلة لتعود الى قصرها ووصيفاتها·· وهي الى سطلها وممسحتها!! أكتب للفلاح الذي يتبارك بالمطر·· وينتشي بالبرق ويطرب للرعد·· ولا شيء يضيء وجهه في ظلمات الشيخوخة سوى عقب لفافته!! للذين يموتون ويولدون وهم يقتعدون أرصفة قصر العدل وردهات الدوائر العقارية والكراجات العمومية من دون أن يقابلوا أحدا غير ظلالهم على الأرصفة!! أكتب للمطر·· للحب·· للحرية·· للربيع·· للخريف!! أكتب لأعيش"·!!
تلك كانت كلمات الراحل "محمد الماغوط" لخصت حروفها وفتحاتها وكسراتها وسكونها بعضا من فلسفة الراحل الكبير·· تلك الفلسفة التي أدمنها شبيبة السبيعنات والثمانينات·· واقتاتوا على إلهاماتها وهم يواجهون واقع الانكسارات السياسية العربية المرة!!
لم يكن محمد الماغوط "رائدا من رواد قصيدة النثر وحسب·· وإنما كان فيلسوفا نشأ في ظل فلسفته جيل عربي كامل·· لاحق وبشغف كبير كل ما جادت به قريحة الراحل الكبير التي قدمت مسحا شاملا ودقيقا وإن كان ساخرا ومحزنا للواقع العربي المؤلم·· لاحقه منذ أولى قصائده النثرية التي صاغها في زنزانته بالسجن·· وتابعه في "ضيعة تشرين" وفي "غربه" و"كاسك يا وطن" وغير ذلك الكثير الكثير!!
في أحد كتبه "سأخون وطني"·· يقدم "محمد الماغوط" هذياناً في الرعب والحرية·· كما أسماه!! وهو يبرر هذيانه (وخيانته) لوطنه بقوله: من تأمل القمر أو الغروب أو شرب الماء براحتيه من ساقية منذ قرون؟؟ من سمع ضحكة عربية من القلب منذ بدء التاريخ؟؟ لا شيء غير القتل والنهب وسفك الدماء!! لا أحد يفكر أن هناك طفولة يجب أن تنمو!! شفاها يجب أن تقبل!! عيونا يجب أن تتلاقى!! أصابع يجب أن تتشابك!! خصورا يجب أن تطوق بغير القنابل والمدى والمتفجرات!!
أيها العرب·· أستحلفكم بما تبقى في هذه الأمة من طفولة وحب وصداقة وأشجار وطيور وسحب وأنهار وفراشات!! أستحلفكم بتحية أعلامها عند الصباح وإطراقة جبينها عند المساء!!
لقد جربتم الإرهاب سنين وقرونا طويلة وها أنتم ترون إلى أين أودى بشعوبكم!!
جربوا الحرية يوما واحدا لتروا كم هي شعوبكم كبيرة·· وكم هي إسرائيل صغيرة!!
رحم الله الراحل الكبير "محمد الماغوط"·· الذي كان سلاحه حسام الكلمة·· ومرماه بوابات السجون·· وكل ما من شأنه إعاقة الحريات أو حجبها!!
suad.m@taleea.com |
