"·· ثم ماذا لو عدلنا عن الأحقاد، ومحونا من الذاكرة طعم الأحزان، وأدخلنا الرأس في عمق الأعماق، وبحثنا عن لحظة لا تباع ولا تشترى تحت برد الجليد··· نتوحد كلية داخل بؤرة الزمن الآتي···"·
الروائي الجزائري واسيني الأعرج
حين تضطرني الظروف الموضوعية الى الحديث أو الكتابة عن الاحتلال "الصدامي" لبلدي أتوجس كثيرا من هاجس المعاناة والألم التي يكابدها المرء المتشظي بين الهم العام وبين الهم الخاص! إن فعل البوح أو الكتابة ينطويان على ذكريات مضرجة بدماء الشهداء الأبرار، ومترقرقة بدموع الثكالى، وعويل المغتصبات وأرق الأمهات والزوجات والأخوات الساهرات المنتظرات لعودة "أسرى الكويت" الذين كان "صدام" وزبانيته ينكرون وجودهم لأنهم - بداهة - أعدموهم! من هنا يصبح الحديث والكتابة: نكء للجراح، ورش الملح على الجرح، الأمر الذي يحيلهما الى بوح معمد بالدم والدموع، ومسكون بالآلام المبرحة الشديدة الوطأة! وكأن المتحدث يكابد التجربة المأساوية مرة ثانية حين يكون بمعرض الحديث عنها!
أقول ذلك حتى لا يظن ظان بأن "العبد لله" كان سعيدا حينما كان يتحدث في الحلقة الثانية من البرنامج التلفزيوني "حنين" الذي يعده ويقدمه الإعلامي الشاعر المبدع "بدر بورسلي"، فقد تمكن - بمناقبه الإنسانية وخبرته الإعلامية - من إدارة دفة الحوار المتلفز: بسلاسة وهدوء يحرضان الضيف الجالس أمامه على البوح وكأنه متربع في الديوانية "يسولف" مع الربع! ورغم أن هذه مزية تحسب له، لكنها قد يكون فيها مغامرة، ربما تفضي الى فشل البرنامج! ذلك أن عادة "العبد لله" في الحديث والاستطراد بعيدا عن السؤال المطروح! حين تراه يتسكع بين "السوالف" والحكايات، على طريقة الشيخ السمح القاضي والأديب "علي الطنطاوي" رحمه الله، الذي كان يطل على المشاهدين من شاشة التلفزة العربية السعودية، ولأن "بورسلي" يعرفني عن كثب، فإنه تمكن بهدوئه وتلقائيته من إعادة، العبد لله، الى جادة الجواب المطلوب، الحلقة الأولى من برنامج "حنين" تم تسجيلها بسهولة ويسر وسط داري بمنطقة "كيفان" ولأنها تمحورت حول فترة الطفولة والصبا والشباب وكانت مركبات التصوير الخارجي قد وقفت بجوار منزلنا قبل التسجيل بيوم·
فأثار وجود ثلاث سيارات ضخمة تشابه التي تكون في المساجد الجامعة التي تتولى نقل وقائع صلاة الجمعة، أو تكون في أحد الأندية لنقل مباراة حامية الوطيس (ولا أحد يسأني عن هذه "الحامية" ليسأل مجمع الخالدين: مجمع اللغة العربية بمصر المحروسة"· ما علينا، الشاهد أن سيارات التلفزيون إياها حرضت المارة والجيران على ضرب أخماس بأسداس علهم يحدسون سبب وجودها: فحينا يزعمون أن صلاة العيد ستنقل من سرداب منزلنا الفسيح، وحينا أخرى يحسبون أن ثمة مباراة "دولية" بين فرق لعبة "الكوت" في دولة الكويت وضواحيها في عقر بيتنا! بصراحة: راقت اللعبة! ليست لعبة "الكوت" أعني، بل لعبة أن تكون محط فضول الآخرين، ومصدر "بلاغة شفهم" وتطفلهم المشروع الراغب في معرفة وجود سيارات التسجيل الخارجي أمام سكن، العبد لله، وعياله وأحفاده·
الحاصل أني تركت الجيران يراوحون في حالة "الحيص بيص" التي يعيشونها جراء رغبتهم الشديدة في معرفة سر وجود أهل التلفزيون عندنا· تأسيا بالنصيحة النبوية الشريفة: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)· بخاصة أن هناك ثمة "ظن" شائع بين الكثير من المواطنين الذين اختاروا عدم مغادرة البلاد أثناء الاحتلال يكمن في أن هناك "تعليمات" فوقية تقضي بمنع أي واحد من الصامدين (من الجنسين) من الإطلالة على قنوات تلفزيون الكويت! والذي يعزز هذا "الظن" أنه جرت محاولات كثيرة لتوثيق الحياة اليومية للصامدين، بكل ما فيها من فعل وممارسة على شتى الأصعدة، ولكنها جميعها أجهضت لسبب أو لآخر! والحديث موصول·· لكن على قد مساحتك المتاحة مد سطورك، فإلى الأسبوع القادم بإذن واحد أحد!
*العنوان مقتبس عن اسم
"ألم الكتابة عن أحزان المنفي لواسيني الأعرج |