قضيت أسبوعاً في الأرجنتين بمعية اثنين من زملاء المهنة، والحق أنه لم يخطر على بالي زيارة تلك البلاد البعيدة لولا دعوة لحضور مؤتمر علمي عالمي نظمته اليونسكو تحت عنوان: " المنبر العالمي حول العلوم الاجتماعية وصلتها بالسياسات الاجتماعية "· ولا شك أن حضور المؤتمرات العلمية المتخصصة له فوائد جمة للأكاديميين ورجال الأعمال والصناعة وأصحاب المهن، فهي تجعلهم في تواصل مع آخر التطورات العلمية في مجالات تخصصاتهم، وهي أيضاً فرصة للحوار والنقاش فضلاً عن التعارف وربما مقابلة الزملاء· ومما يؤسف له قلة الحضور العربي في مثل هذه اللقاءات، وإن كان ثمة حضور فإنه لأشخاص يتكرر تواجدهم من مؤتمر لآخر وكأنهم امتهنوا حضور المؤتمرات!!
ولعل إحدى فوائد حضور المؤتمرات أيضاً هو الاطلاع على أحوال البلد المضيف، بالأخص لتلك البلدان التي تفصلنا بينها المسافات البعيدة، والتي لا يغرينا شيء لتحمل عناء السفر إليها· والأرجنتين خير مثال على ذلك، فهي في أقصى الأرض، في جنوب أمريكا الجنوبية، أو بكلام أدق، فهي تمتد من وسط أمريكا الجنوبية في شطرها الشرقي إلى آخر نقطة في تلك القارة بمسافة تصل إلى الأربعة آلاف كيلو متر طولاً، وبمساحة تصل إلى أكثر من مليونين و766 ألف كيلومتر مربع· أما سواحلها فيبلغ إجمالي طولها 4989 كيلو متراً·
ورغم تلك السواحل الطويلة إلا أن الأرجنتينيين - كما رأيتهم على الأقل - لا يقبلون كثيراً على أكل السمك، بل هم " لحوميون " حتى النخاع إن جاز التعبير· إذ لم أر في حياتي شعباً يقبل على أكل اللحم، وخاصة الستيك، كما الشعب الأرجنتيني، أما الكميات التي تقدم في الوجبة الواحدة فلا نظير لها· ولعل مرجع هذا البذخ في أكل اللحوم، وخاصة لحم الأبقار يعود إلى كون الأرجنتين من الدول الرائدة في تصدير اللحوم، وهي تمتلك مراعٍي خصبة مترامية الأطراف، تمتد من شمالها إلى وسطها تسمى " البامباس"·
والطابع الأوروبي طاغٍ على المجتمع الأرجنتيني، الذي يتكون أساساً من الأسبان والإيطاليين والقليل من الإنجليز وجالية عربية اندمجت بذلك المجتمع اندماجاً كاملاً· أما السكان الأصليون من الهنود الحمر فهم قلة قليلة· وقد يكون التسامح الديني الذي ينعم به أهل الأرجنتين وراء اندماجهم وانصهارهم في بوتقة وطنية واحدة· ولقد تلمست ذلك من عدم خوض الناس في المسائل الدينية فضلاً عن وجود دور العبادة لمختلف الأديان، ومنها المركز الإسلامي الذي يحتل مساحة كبيرة في أرقى أحياء بيونس أيريس، حيث وهبت الحكومة الأرجنتينية تلك الأرض في عهد الرئيس كارلوس منعم إلى المسلمين مجاناً·
وبما أن رحلتنا جاءت في صيف الأرجنتين، حيث تقع في نصف الكرة الجنوبي، فإننا تلمسنا عن كثب وطأة ظاهرة الاحتباس الحراري وما تخلقه من مشكلات قلما ننتبه إليها في مجتمعاتنا الخليجية، فمدينة كبيونس أيرس غير مهيأة تماماً للتعامل مع ارتفاع درجات الحرارة، ذلك أن أغلب مبانيها قد بينت منذ قرون على الطراز الشائع في عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، وباتت لا تطاق هذه الأيام، وإدخال التكييف المركزي لها عملية صعبة قد تشوه منظرها و تفقدها رونقها الجمالي، شأن الكثير من مباني القاهرة التي أدخلت إليها المكيفات منذ حقبة السبعينات من القرن الماضي!!
ويبدو أن الاقتصاد الأرجنتيني أخذ يتعافى من الأزمة الخانقة التي مر بها العامين 2000 و 2001 حيث أصبح معدل النمو الاقتصادي بين 2003 - 2005 حوالي8 % بيد أن الأرجنتين مازالت مثقلة بديون كبيرة تبلغ 119 بليون دولار، وهي رغم قلة عدد سكانها البالغ نحو أربعين مليوناً قياساً لمساحتها وكثرة وتنوع مصادر خيراتها الطبيعية، إلا أن أكثر من %38 من شعبها يعيش تحت معدل الفقر!!
وقد مرت الأرجنتين بسنوات عجاف، تسلط فيها العسكر على رقاب الناس، إذ استمر حكمهم من العام 1979 إلى العام 1983 حيث انهارت سلطتهم إثر مظاهرات شعبية نجمت عن هزيمة حرب الفوكلاند التي خاضتها الأرجنتين ضد بريطانيا على تلك الجزر· ومن حسن الطالع أن تلك الجمهورية التي استقلت من إسبانيا في العام 1818 قد استقر بها المقام على ارتضاء الديمقراطية أسلوباً للحكم، بل إنها أصبحت تبز كثيراً من الديمقراطيات العريقة في تشريعاتها الديمقراطية من قبيل اعتبار المشاركة في الانتخابات العامة واجباً إلزاميا على كل مواطن (بالطبع ومواطنة) بلغ من العمر الثامنة عشرة·
أخيراً، يمكن القول أن الأرجنتين بشعبها المتعلم ( نسبة الأمية أقل من %3 (دي الثقافة الأوروبية، وبمواردها المتنوعة ومنها النفط والغاز فضلاً عن قطاعها الزراعي والرعوي وصناعاتها المتنوعة، مهيأة أكثر من غيرها للخروج من دائرة التخلف الاقتصادي والاجتماعي أو الانتماء إلى العالم الثالث، إنها قريبة في نموها من بعض المجتمعات الأوروبية ولكن بموارد طبيعية أضخم بكثير، وهي في الوقت نفسه بحاجة إلى العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة، وهو ما يؤدي إلى استقرارها الاجتماعي والسياسي ومن ثم نموها الاقتصادي·
alyusefi@taleea.com |