من بين الأديان السماوية الثلاثة، تنفرد اليهودية كدين بكونها لا تسعى لتوسعة قاعدتها أو للدعوة للدخول في هذه العقيدة، وذلك بخلاف الإسلام والمسيحية، والتي ينشط فيها الدعاة ويتنافسون لاستقطاب شعوب الأرض، كل يدعو من جانبه ويروج لعقيدته ودينه، وتبقى اليهودية كدين محظور إلا على الذين هم من أم يهودية وليس من أب فقط، في محاولة واضحة لحظر الانتماء من خارج العرق أو التسلسل التاريخي·
هنالك ولا شك تنافس تاريخي بين الإسلام والمسيحية لما يتعلق بالدعوة للدخول في أي من العقيدتين، وقد اتخذ هذا التنافس أشكالا ووجوها متعددة ومختلفة، تفاوت الحماس فيها مع تفاوت الظروف التاريخية، وإن كانت كلها تصب في هاجس استقطاب الشريحة الأكبر للدخول في هذا الدين أو ذاك·
حين نزلت الرسالة على محمد (صلى الله عليه وسلم) وبدأ في الدعوة الى دين الإسلام، استطاع رسول الله أن يستقطب بعض الموحدين من المجتمع المكي، والتي يذكر بعض المؤرخين بأنهم كانوا يعتنقون الديانة المسيحية، ثم بدأت الدعوة المحمدية في الخروج من محيطها الأول، لتدعو الأديان السماوية السابقة للدخول في خاتم الأديان، ولعل أشهرها تاريخيا، رسالة الرسول (صلى الله عليه وسلم) الى النجاشي ملك الحبشة: "وإني أدعوك الى الله وحده·· لا شريك له·· والموالاة على طاعته·· وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني·· فإني رسول الله وإني أدعوك وجنودك الى الله تعالى·· وقد بلغت ونصحت·· فاقبلوا نصيحتي"·
وحيث إجابة النجاشي: "أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل"، ثم لتنطلق فيما بعد مسيرة الدعوة من خلال فتوحات إسلامية لامست أطرف القارات!!
مشروع الدعوة لا يزال قائما، وإن كان قد اتخذ اليوم شكلا عصريا، وأدوات حديثة، ففي الكويت مثلا أصبح للدعوة مؤسسات تنظمها، وللدعاة درجات وظيفية، وجداول مرتبات، وأصبحت الدعوة وظيفة شأنها شأن أي وظيفة أخرى، لكنها - أي الدعوة - لم تعد موجهة للملوك وأصحاب الشأن والنفوذ والسلطة، وإنما للمستضعفين من العمال وخدم المنازل الذين نشاهدهم كل يوم وهم ينطقون الشهادة بلهجة ركيكة في برامج دعائية لمؤسسات الدعوة للدخول في الدين الإسلامي·
ونحن هنا لا نقلل من شأن هؤلاء المستضعفين، وإنما نقودهم كمثال للمقارنة بين دعوة الأمس ودعوة اليوم·
إن المشهد المتكرر الذي تبثه قنوات التلفزيون لبعض رجالات وشيوخ الدين في الكويت وهم يلقنون "مهتديا" جديدا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تثير أكثر من سؤال حول أهداف الدعاة اليوم، هل الهدف هو تلقين الشهادة وزيادة أرقام "المهتدين" الجدد التي تذيل إعلانات لجان الدعوة، أم أن الهدف تعزيز روح الإسلام الحقيقية لدى هؤلاء "المهتدين"؟
إن واقع الإسلام اليوم، وبسبب ما شابه من تجريح وتشويه بأيدي من يدعون الإسلام، يتطلب دورا جديدا للدعاة لا يقتصر على تلقين المستضعفين الشهادة فقط، وإنما يتجاوزه ليصبح دعوة لإعادة بناء الإسلام الحقيقي، إسلام التسامح، والرحمة ونبذ الفروقات، وترسيخ عدالة السماء!!
فأغلب - إن لم يكن جميع - هؤلاء المهتدين هم من المستضعفين من عمالة المنازل، والعاملين في المؤسسات، وهم غالبا ما يكونون ضحايا لعنف وبطش أرباب العمل، ولظلم وإجحاف مكاتب وشركات العمالة، ومع ذلك فنحن لم نسمع ولم نلمس من أي من لجان الدعوة هذه محاولات جادة لإغاثة هؤلاء المستضعفين أو لدفع الظلم عنهم!!
لقد كفل نبي الأمة للذين دخلوا في دين الله من المستضعفين، وأعلنوا شهادة أن لا إله إلا الله، كفل لهم العيش الكريم، وساواهم بأهل قريش وأعيانها!! ولم تقتصر دعوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لأولئك المستضعفين على نطق الشهادتين، بل امتدت تلك الدعوة لتشمل أمورا كثيرة في حياة أولئك الضعفاء·
بينما ترتكز دعوة الدعاة اليوم على تلقين الشهادتين، ليعود بعدها المستضعفون من المهتدين الجدد الى معاناتهم، والى عالم يفتقد عدالة السماء، ورحمة الإسلام!!
suad.m@taleea.com |