رغم نفورنا من الزحام الذي أصبح عقدة حياتنا المستديمة وحديث مجالسنا المتكرر، إلا أن منظر السيارات وهي تتحرك ببطء باحثة عن موقف شاغر في ساحة المواقف المحيطة بمركز أبوظبي الوطني للمعارض - حيث أقيم معرض أبوظبي الدولي للكتاب - كان منظرا يبعث في النفس متعة لا تبعثها عادة مثل هذه المناظر، كونه يعبر عن شغف الناس بالكتاب وتقديرهم لقيمته وحرصهم على اقتنائه·
أما المشهد الأكثر تأثيرا فقد كان منظر طلبة وطالبات المدارس وهم يجوبون أنحاء المعرض في حيوية أضفت على المكان بهجة، مستثمرين هدية الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي خصص لهم مبلغ ثلاثة ملايين درهم تسلموها على شكل قسائم لشراء ما يروق لهم من الكتب المعروضة، فقد كانت لفتة ذكية لتشجيع الناشئة وحثهم على التواصل مع الكتاب وتعويدهم على القراءة، ونتمنى أن تكون المدارس قد قامت بدورها في توجيه الطلبة والطالبات وإرشادهم لاختيار ما يناسب أعمارهم وعقولهم من الكتب لتكمل قراءاتهم الخارجية المنهج الدراسي الذي يستقون منه معارفهم وعلومهم·
استقطاب معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته السابعة عشرة لأكثر من 400 دار نشر من حوالي 50 دولة من مختلف أنحاء العالم، واجتذابه لأكثر من 400 ألف زائر، وتجاوز مبيعاته من الكتب المقروءة والمسموعة والبرمجيات 30 مليون درهم، كل هذه نجاحات تسجل للمعرض، وتفتح آفاقا لنهضة ثقافية تبدو ملامحها واضحة ومبشرة من خلال المشاريع العملاقة التي أُعلن عنها في أكثر من إمارة من إمارات الدولة· يأتي على رأسها إنشاء دار للأوبرا ومتحفين أحدهما للفنون والآخر شامل، وقرية الثقافة، واكتمال مبنى ندوة الثقافة والعلوم في دبي، وإنشاء المنطقة الثقافية في "جزيرة السعديات" بأبوظبي حيث ستحتضن متحف "الشيخ زايد الوطني" ومتحف "اللوفر أبوظبي" ومتحف "جوجنهام للفن المعاصر" و"دار المسارح والفنون" و"المتحف البحري" و"حديقة البينالي" المؤلفة من 19 جناحا مخصصة للفنون والثقافة· تأتي هذه المشاريع لتقف إلى جانب المشاريع الرائدة في إمارة الشارقة، تلك التي اتخذت لنفسها أماكن مرموقة على خارطة الأحداث الثقافية الكبرى داخل الدولة وخارجها، كمعرض الشارقة الدولي للكتاب ألذي أكمل ربع قرن من تاريخه، وبينالي الشارقة الدولي للفنون، وأيام الشارقة المسرحية، والعديد من المهرجانات والملتقيات التي أصبحت معلما من معالم الشارقة·
كل هذه المشاريع - الرائد منها والواعد - وتلك المشاريع الثقافية التي يُعلن عنها في مختلف إمارات الدولة بشكل متواتر تتشكل منها رؤية مفعمة بالأمل لأنْ تتبوأ دولة الإمارات موقعا ثقافيا مرموقا ومتميزا، ليس على المستوى الخليجي والعربي فقط، وإنما على المستوى الدولي أيضا، لتخفف قليلا من مرارة الواقع المحزن الذي تعيشه الثقافة في العالم العربي مقارنة مع مناطق أخرى من العالم تزدهر فيها الثقافة رغم محدودية إمكانات بعضها· هذا الواقع الذي تكشفه وتعرّيه الأرقام المتواضعة التي توردها تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة مسجلة ما وصل إليه حال الثقافة في وطننا العربي، والتي تذكر في مجال الترجمة - على سبيل المثال - أن إجمالي الكتب التي تتم ترجمتها إلى العربية سنويا لا يتعدى 330 كتابا، وهو ما يمثل خُمس ما يتم ترجمته في دولة أوروبية واحدة مثل اليونان· أما التراجع في صناعة الكتاب العربي فتعبر عنه الأرقام التي تصدر عن معارض الكتب العربية، ففي الدورة الرابعة والعشرين لمعرض الشارقة الدولي للكتاب (2005) مثلا لم يصدر عن دور النشر العربية التي شاركت في هذه الدورة وعددها 707 أكثر من 2100 عنوان موجهة إلى 284 مليون نسمة هم عدد سكان الوطن العربي، في الوقت الذي تنتج فيه إسرائيل وحدها 13000 عنوان جديد سنويا موجهة إلى 5 ملايين قارئ فقط·
كما ينعكس هذا الواقع الحزين من خلال أرقام توزيع الكتب العربية التي تُراوِح بين 1000 و5000 نسخة في أحسن الحالات· وإذا ما أخذنا رواية "عمارة يعقوبيان" للدكتور علاء الأسواني مثلا فسوف تصدمنا هذه الحقيقة وتضعنا أمام صورة محبطة· فهذه الرواية التي سجلت رقما يعتبر قياسيا (على المستوى العربي طبعا) لم توزع أكثر من 10 آلاف نسخة خلال ثلاث سنوات رغم حصولها على جوائز عديدة وتحويلها إلى فيلم سينمائي، في حين أن رواية لطفل سويسري يدعى "كريستوفر بالي" لم يتجاوز السابعة من عمره وزعت في سويسرا وحدها 12 ألف نسخة خلال ثمانية شهور تقريبا، ومن المتوقع أن تسجل أرقاما أكبر عندما توزع في بريطانيا هذا الشهر، في الوقت الذي بدأ فيه كريستوفر كتابة روايته الثانية مستمدا أفكاره من الحكايات التي ترويها له أختاه الكبيرتان إليزابيث وفيكتوريا كما يقول والده· ولا مجال للمقارنة هنا بطبيعة الحال مع رواية مثل "هاري بوتر" التي بيع من الجزء الخامس منها فقط في اليوم الأول لطرحه بالأسواق قرابة 6 ملايين نسخة، وطبع منه في الأسبوعين التاليين 9 ملايين نسخة، بالإضافة إلى أكثر من مليون نسخة طُلبت عن طريق الانترنت·
إن حقائق كهذه تقودنا بالضرورة إلى تأمل واقع صناعة النشر في عالمنا العربي الذي ما زال يعاني من أمية في القراءة والكتابة تصل نسبتها إلى 51% وفق آخر الإحصاءات الدولية المعتمدة، ناهيك عن الأمية الحديثة التي تقاس بمدى استخدام الفرد للوسائط التكنولوجية كالإنترنت، وإجادته للغات الأخرى إلى جانب لغته الأم· كما أن تقارير التنمية البشرية تقول إن 17% من إنتاج الكتب في العالم العربي تنحصر في الكتب الدينية والتراثية التي تُستَنسخ أفكارها ولا تحتاج إلى مجهود فكري كبير، بينما تأخذ كتب الطبخ والأزياء والتنجيم والسحر حصة كبيرة أيضا من هذا الإنتاج· وفي حين لا تستثمر دور النشر العربية إلا أقل القليل من الأموال في مجال صناعة الكتب فإن دور النشر الأجنبية تستثمر المليارات في هذا المجال، كدار "بنجوين" الإنجليزية التي تتعدى استثماراتها استثمارات شركة صناعية كبيرة ومهمة مثل "رولز رويس" للسيارات على سبيل المثال·
الكتاب مثله مثل أي شيء في الحياة، صناعة وفن وتجارة وهواية وعشق وأشياء كثيرة لا تتعارض مع بعضها، بل تتكامل لتصبح استثمارا ذا عائد مُجزٍ عندما يعرف المستثمر كيف يوجهه، وعندما تتكاتف الدولة ومؤسسات المجتمع المدني لتقديم الدعم الذي يستحقه له· ليس صحيحا أن الإنترنت والفضائيات ووسائل الترفيه الأخرى قد سحبت البساط من تحت أقدام الكتاب وهمشته، بدليل أن هذه الوسائط موجودة في المجتمعات الغربية قبل أن تصل إلينا، ومع ذلك فإنها لم تمس جمهور الكتاب ولم تأخذ حصة منه، فصناعة الكتاب هناك تزدهر لأنها تجد من يدعمها ويشجعها على مستوى التأليف والنشر والتوزيع، وتُرصد لها الجوائز السنوية، وتُعقد لها المؤتمرات والندوات، وهذا هو الدور الذي نأمل أن تنهض به "جائزة الشيخ زايد للكتاب" كي تدفع ليس حركة التأليف فقط، وإنما النشر والتوزيع أيضا إلى الازدهار، لندفع عن أنفسنا تهمة أننا "أمة لا تقرأ"·
سوف يبقى للكتاب سحره الذي لا يقاوم وعشاقه الذين يسعون إليه حيثما وُجِد، وسوف يبقى لمعارض الكتب ألقها الخاص الذي لا ينطفئ، لأنها الأماكن الوحيدة التي نذهب إليها لنبحث فيها عن أناقة عقولنا لا أشكالنا، وعن غذاء أرواحنا لا أجسامنا، أفلا يليق بها بعد هذا كله أن تكون لها كل هذه الأهمية في حياتنا، وأن تَحجِز لها مواقع أثيرة في قلوبنا؟
كاتب إماراتي
aliobaid2000@hotmail.com |