من منا لا يعود بذاكرته إلى تلك المرافئ المطلة على ضفاف الروح والتي تسمى "الفرجان"، الأحياء القديمة التي احتضنت باكورة الصبا، وتغلغلت عميقا في مساماتنا، ونحتت ملامحنا برمالها الطيبة، ورسمت فوق جباهنا غيوما حالمة غمرتنا بحبها حد الهوس بها والخوف عليها، كلما لاحت ذكريات الطفولة تتسرب المرارة فتجتاح الزمن الحاضر لندرك بشاعة الاقتلاع من منابتنا وكأنها صفحة طويت دون استئذان، هذه المشاعر التي تفيض حبا الى زمن جميل غادرناه مرغمين باتجاه أحياء أكثر تمدنا تتوازى مع الطفرات المادية التي منّ بها الله علينا، والتي ساهمت في نمو مطرد يسابق هبوب الريح لتكتمل خارطة النهضات العمرانية عاما بعد عام في أرجاء المعمورة، لنصطدم بعد زمن بحقيقة هذه الأحياء الوثيرة والبسيطة ،التي جمعت قلوب الناس بألفة الجار قبل الدار، وأضفت الكثير من الحميمية على تلك البيوتات الصغيرة التي تسامت في عيوننا صغارا وتركت بصمتها المتمثلة بقيم وثقافة "فرجان لوّل" التي بلا شك يفقدها جيل الحاضر، وتكمن الصدمة تحديدا في تحول أحيائنا القديمة إلى ما يشبه المستعمرات بالمعنى الحرفي وليس اللغوي للكلمة، فكلما اتجه مواطنو الدولة شمالا امتد الزحف الآسيوي إلى هذه الأحياء واستولى على ذكرياتنا، وسلب منّا الأرض وأصبحت هويتنا ضائعة إلا من جدران طينية بقيت مرغمة على صمودها، وقد لا يلمس البعض مدى خطورة هذه الظاهرة التي اتشح بها السواد الأعظم من الأحياء القديمة وحتى الأحياء الأقل عمرا من تلك المترامية على تخوم شواطئنا والتي تعرف بفرجان "الغرب والشرق" المطلة على البحر مباشرة، لكن ناقوس الخطر يلمسه أي متعمق في أبعاد الهجرات المتوالية للمواطنين الذين كلما غادروا حيّا أو بيتا تركوا الباب مفتوحا أمام الغريب وليس أمام ابن البلد الأمر الذي أسقط معه خصوصية هذا الوطن ولعل معنى الوطن هنا ينحسر تماما في الأزقة والبيوت التي تشكل هذه الأحياء·
نلاحظ جليا التخطيط المستمر من قبل بلديات الدولة وإدارات التخطيط للمزيد من المدن السكنية الجديدة التي تبعد اليوم عن مركز المدينة متجهه إلى عمق الصحراء الجميلة ليتم افتراش الكثبان بعد أن تتدثر أجدادنا برمال الشاطئ وأبوا أن يبتعدوا عن رائحة البحر، والتساؤل الذي يطرح نفسه ثقيلا على كل من يشاهد هذا التوسع المذهل باتجاه الصحراء حتى متى نهدر هذه المساحات الصحراوية التي تعبر عن رئة الطبيعة ونترك خلفنا أجمل المناطق ليستمتع بها الآخرون، لماذا لا يعاد توزيع هذه الأراضي من جديد على جيل الشباب الطامح إلى إعادة الحياة إلى هذه الأماكن التي احتضنت آباءهم وربما أجدادهم، وفي هذا الصدد نجد أن بعض هذه الأحياء نالت من الخدمات ما لم تنله الأحياء الجديدة نفسها سواء من شوارع داخلية أو حتى من شبكات للصرف الصحي وحتى من حدائق ومن أسف أن يتم إنجاز هذه الخدمات متوافقا مع انتقال المواطن من بيته ليفسح أمام الأجنبي الاستمتاع بهذه الخدمات التي عاش عمره منتظرا إياها ومتحسرا عليها، لكنه مستعداً أن يخلفه فيها وجه غريب يستأجر منه البيت دون أن يدرك خطورة هذا المزج غير المتجانس مع جيرانه، وإذا كانت التعويضات قد طالت أصحاب البيوت القديمة التي وقعت ضمن مشروعات التطوير سواء مشروعات اقتصادية أو حتى مشروعات الحفاظ على العمران التراثي التي حولت بعضها إلى مناطق تراثية ومتاحف مشكورة، فإن الخطوة الأهم هو أن لا تترك هذه الأحياء بوابات للعمال وعائلاتهم من كل صنف ولون، بل المفاجأة أن يتقاسم هذا البيت أكثر من خمس عائلات في آن واحد وذلك في تقسيم مدمر للبيت الصغير الذي يصفه البعض بالمتهالك، لكن الجشع أحيانا يدفع بعض الأجانب إلى التأجير من الباطن وتقسيمه بعلم أو دون علم من المؤجر كي يحقق أعلى ربح وفي النهاية على حساب صاحب البيت الأصلي، لذا من الأولى أن تقوم الحكومات المحلية بتعويض أصحاب هذه الأملاك وإعادة بنائها من جديد وتسليمها لمن يستحقها، وربما هذا الاستثمار الأولى والأكثر نفعا وهو المحافظة على طابع وخصوصية المكان بل يمتد تأثيره عميقا إلى أصحاب المكان·
وربما لا يستوعب البعض أن التحضر السريع له أثره على المجتمعات والمدن والاقتصاد والسياسات، والذي يعد من أكثر القضايا الملحة التي تواجه العالم اليوم بل كان السبب في تأسيس المنتدى الحضري العالمي من قبل الأمم المتحدة الذي يعنى بضوابط التخطيط والتطوير الحضري والعمراني، بل ذهبت الكثير من الدراسات إلى ضرورة مراعاة العوامل الثقافية والتركيبة الاجتماعية والعادات والتقاليد للمجتمع في عملية التخطيط والتطوير، وفي دراسة مهمة "لهشام علي مهران" أكد فيها على أن الوصول إلى التنمية العمرانية والحضرية المتجانسة والمتوازنة يتطلب توظيف التقنيات الحديثة والعلوم المتطورة بما يتلاءم مع المعطيات المحيطة بالمجتمع سواء الطبيعية أو البيئية أو البعد الاجتماعي والثقافي أو الاقتصادي، ولعل تبني سياسات وخطط جديدة تتوافق مع هذه العناصر ولا تتصادم معها يمثل ضرورة ملحة لتحقيق مستوى حضاري وتنمية مستقرة للإنسان والمكان·
ولعل من سياسات التنمية العمرانية تحديد المناطق المميزة وتقوية وحدة طابعها، إلى جانب المحافظة على مظهر وموقع المعالم الرئيسية ذات البعد التاريخي والتراثي، إضافة إلى أهمية وضع أنظمة لتطوير الأحياء القديمة، بل لا بد لصانعي السياسات من إدراك حقيقة لما لهذه الأحياء من قدرة على تحريك عجلة التنمية الوطنية، لذا من الضرورة توفير الظروف المعيشية لسكانها من شتى المستويات فقراء وأغنياء، بخاصة أن هناك مدناً جاذبة للأمل والتي كانت موضوع اليوم العالمي للموئل في العام الماضي حيث احتفلت المنظمة بهذه المدن على اعتبار أن العالم بات يشهد الانتشار الأوسع على الإطلاق لظاهرة هجرة المواطنين إلى المدن·
وإذا كان من خاتمة لهذا الموضوع فإنها لا يمكن أن تبتعد عن أهمية إعادة الحياة إلى كل الأحياء التي اكتنفتها الغربة وذلك برفع قيمة الأرض المعنوية، وتعزيز الولاء للوطن وعدم تغريبه على أيدي أبنائه غير المدركين لخطورة الوضع، وهذا لن يتم إلا بوجود تشريع يمنع بيع هذه الأحياء بمبالغ زهيدة مقارنة بمكانتها، ولا أبلغ من قصيدة محمود درويش حين ترك الحصان وحيدا كي يؤنس البيت، "فالبيوت تموت إذا غاب سكانها"· |