رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 27 يونيو 2007
العدد 1780

حين يميل الميزان
د. لطيفة النجار
Latifa64@emirates.net.ae

قد يشعر الإنسان أحيانا أنه أكثر من الحديث في موضوع ما بحيث يسيطر عليه شعور بأنّ التزام الصمت فيه أبلغ من الكلام، خاصة إذا أحسّ بأنّ المتلقي لا يعبأ بما يقوله أو أنه لا يرى الأمر ذا بال أو ذا أولوية تستحق أن تؤخذ في الحسبان· ويسيطر هذا الشعور على الإنسان إذا كان المتلقي مجتمعا كاملا ينهج نهجا يشير إشارة واضحة إلى توجه نحو عدم الاهتمام الفعلي بالموضوع أو عدم الانشغال به انشغالا ينبئ عن وعي بخطورته واتصاله المباشر العميق بأبعاد ذات علاقة بالوجود والهوية والمستقبل· لكنّ عظم الموضوع وعمق رسوخه في النفس والتعلق بالأمل في بعض فئات المجتمع المتبصرة الواعية تشعر المرء بالأمانة وتدفعه مرارا وتكرارا إلى الكتابة فيه، علّ هذا التكرار يُسمع، وعسى أن يرد الصوتَ صدى، ولو بعد حين، فما زلنا، كما قال شاعرنا العربي، نعلل النفس بالآمال نرقبها، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل· أقول هذا وأنا بصدد الحديث عن اللغة العربية في مجتمعنا العربي، وهو حديث كتبت فيه كثيرا، ولكن المواقف التي تتجدد بلا توقف ولا انتهاء تدفعني إلى الكتابة فيه مرة بعد مرة·

قد يذهب كثير من القرّاء إلى أنني أبالغ في رد فعلي تجاه ما سأذكره، لكني أود أن يصبروا عليّ إلى نهاية المقال، وأرجو أن أجد منهم تفاعلا إيجابيا سواء كان ذلك بالقبول أو الرفض· كنت اليوم في أحد مراكز التسوق المعروفة في العين، في أحد المحلات الكبرى، كان المحل شبه خال من المتسوقين لولا سيدتان وطفل صغير بصحبتهما في عربته· كان واضحا جدا أنّهم من مواطني دولة الإمارات· كان الصغير يصرخ صرخات قصيرة عالية، وكانت إحدى السيدتين تحاول أن تسكته بقولها "إشششش"، وببعض الجمل التي تدعوه فيها إلى التزام الهدوء، وهذا نصّ الجمل "don't shout"  "be quit"  " do you want some crisps?" .  كانت الأم تتحدث مع طفلها بالإنجليزية من دون أن تنطق كلمة واحدة بالعربية· وعلى الرغم من أنّ كل شيء في الأم وطفلها يوحي بأنهما من مواطني دولة الإمارات فإن لسان الأم كان لسانا أعجميا لا صلة له بالعربية من قريب أو من بعيد·

انتهى الموقف ومضيت في طريقي محاولة ألا أجعل ما رأيته يؤثر فيّ، لكنّني فشلت، لقد كان الموقف مثيرا للشجون حقا، غلبني الحزن والألم، وانهالت عليّ الأسئلة الحيرى، وتدفقت في النفس خواطر جمة كنت قد قررت غض الطرف عنها منذ حين· أود أولا أن أشير إلى أنّني لا أصادر على حرية الناس فيما يرونه في شؤون حياتهم وتربية أبنائهم، ولكنّ وجود هذا التوجه عند أسر كثيرة في مجتمعنا، من باب حرصهم على أن يهيئوا الفرص لأبنائهم ليأخذوا حظهم من اللغة الإنجليزية التي تتوجه مؤسسات الدولة إلى جعلها المعيار الأول (وقد يكون الأخير) في التفاضل بين الشباب- ينبئ عن تغير واضح في المعتقدات والثوابت الأساسية التي كنا نظن أنها مما لا يمس ولا يناقش· فكيف يمكن لنا أن نبرر لأم عربية مسلمة أن تخاطب ابنها الصغير بلغة غير لغتها، في توجه واضح نحو النظر إلى اللغة الأجنبية على أنها الفضلى والعليا والأداة السحرية التي تحقق التفوق والنجاح، وتضع الناطق بها في الصف الأول بغض النظر عما يمتلكه من مهارات أو قدرات أو إمكانات أخرى مهمة؟ ليست أمًّا هي التي تعتقد ذلك، إنها أمّة كاملة، فحين يتسرب هذا التصور إلى النفوس، وينعكس في الأفعال والأقوال والخطط والاستراتيجيات لا يحتاج المرء إلى ذكاء كبير ليستنتج أنّ هناك ما يشبه التواطؤ غير المعلن على اللغة العربية في أرضها وبين أبنائها·

وقد يكون من المفارقة الصارخة أنْ ينظر المرء في كتابات الطلبة باللغة العربية ليرى إلى أي مستوى وصل حال العربية في مقابل الانتفاضة الجماعية للاعتناء باللغة الإنجليزية على المستويات الرسمية والأسرية والشخصية، فقد أتيحت لي الفرصة في هذا الفصل الدراسي أن أطلع على كثير من كتابات الطالبات في مساق لتدريس مهارات الكتابة بالعربية، وقد أصبت بالذهول لما وجدته من أخطاء لا أعرف كيف مرّت بسلام طوال سنوات دراسة الطالبات في المدرسة وفي الجامعة، فكثير من الطالبات لا يعرفن مبادئ الكتابة بالعربية، وإنني على يقين أنني لو قدمت نماذج من بعض هذه الكتابات لمجموعة من المتخصصين لقرروا أنها لطلبة في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية على أحسن تقدير· والمشكلة أنّ الطالبات كنّ يعرفن ذلك، ويرين أنّ الأخطاء التي يقعن فيها ليست سببا لإنقاص درجتهن، "فالمهم المعنى" كما يرددن، هذا إذا كان المعنى واضحا ومفهوما، أما الأخطاء النحوية والإملائية والأسلوبية فمن المفروض أن نغض الطرف عنها، ولا نحاسب عليها· ويصبح هذا الصوت أعلى وأكثر جرأة إذا لم تكن الطالبة من طالبات قسم اللغة العربية·

ولكي لا يكون الكلام نظريا فإنني أضع بين يدي القراء نماذج بسيطة جدا من هذه الأخطاء، لعلها تكشف عن الحال التي وصلت إليها لغتنا العربية، في الوقت الذي نهرع كلنا جماعات ووحدانا إلى الاعتناء باللغة الأجنبية اعتناء كان حقه أن يكون للغتنا ولساننا· " جاءة هذه الرجل"، "لفت انتباهي بأن جميع طلاب يبتعدوا عني"، "كان يجلس بنتظار النائب العام"، " كأنها أسعد إنسانة فالوجود"، "من أهم الصفات التي توجد فيني الخجل"، "يوم في حيات كرسي"، "ولا أنسى الذي يثير إعجابي ودهشتي في أن أرى واحد شخص عربي يقرأ كتاب في الأماكن العامة"· فهذه بعض الأخطاء مع ملاحظة أنني لم أورد نماذج من عبارات تفتقر إلى المعنى تماما·

إنّ معظم الطلبة في الجامعات عاجزون عجزا واضحا عن التعبير عن أفكارهم في نص صحيح متماسك باللغة العربية، وهم لا يرون أنّ هذا العجز منقصة تسبب لهم الإحراج، أو تشعرهم بالذنب، فهم لم يكبروا على تقدير العربية، ولا على الإحساس بأهميتها أو ارتباطها بوجودهم وهويتهم، وهم لا يرون في المجتمع ما يوجههم نحو تقديرها والاعتزاز بها والحرص على تعلمها وإجادتها· إنّ المجتمعات هي التي تصنع أبناءها، وهي التي تنشئهم على موازين خاصة يزنون بها الغالي والرخيص· وقد صدق الشاعر حين قال:

وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه

فلا لوم على الشباب من أبنائنا حين لا تعنيهم العربية، ولا يقض مضجعهم أنهم يكتبون بها كما يكتب الأعاجم، فلا يرون الخطأ فيها أمرا يستحق أن يحاسبوا عليه، أو خللا يستحق أن يبذلوا الجهد لتصحيحه، فأين، بعد أن ينهوا دراستهم، سيجدون العربية أو سيحتاجون إليها؟ إذا كانت الأمهات تخاطب صغارها بالأجنبية؟ وإذا كان كل ما يرونه حولهم يضع الأجنبية في كفة الرابح الذي لا يبور؟ وقد يكون من المهم أن أبين أنّ حديثي الدائم عن واقع اللغة العربية في مجتمعنا لا يعني بأي حال إهمال اللغة الأجنبية، فالتمكن منها شرط ضروري للنجاح والتعلم والتواصل مع الآخر والاستفادة من إنجازه في حقول المعرفة المختلفة، لكنّ كفة الميزان أضحت مائلة ميلا شديدا، وتوشك كفة العربية أن تكون صفرا·

* جامعة الإمارات

 Latifa64@emirates.net.ae

�����
   
�������   ������ �����
القراءة للأطفال ..خطوة نحو تثقيفهم
حين يميل الميزان
منذورون للموت
الترجمة.. سلاح القوة المفقود
نشد على يديْ هذا الرجل
إشكالية الثقافة
لبنات المجتمع الكبير
اللغة العربية في جامعاتنا العربية
الانتزاع من الوطن
مفهوم التحضر.. تساؤلات ومواقف
كوب لبن أم كوب ماء؟
فراشة مبتسمة تطير من شدة الفرح
هوية في مهب الريح
عن الرياضة والثقافة
العمى والبصيرة
مَنْ لأبنائنا؟
ثوابت ومتغيّرات
الطب.. وأخلاقيات المهنة
تحولات المكان
  Next Page

اصحوا يا نايمين:
د. بهيجة بهبهاني
دعوة دعارة:
على محمود خاجه
حركات وأحزاب مسلحة:
المحامي نايف بدر العتيبي
ماذا بعد عودة الأموال؟:
فيصل عبدالله عبدالنبي
لماذا يحصل لنا كل هذا؟:
محمد بو شهري
رأينا في نوابنا:
أحمد سعود المطرود
الباعة المتجولون:
المهندس محمد فهد الظفيري
قضيتنا وقضيتهم:
عبدالله عيسى الموسوي
الأشقاء الأشقياء:
د. فاطمة البريكي
أعاصير من نوع آخر:
علي عبيد
حين يميل الميزان:
د. لطيفة النجار
من يدفع ثمن الصراع؟:
د. محمد عبدالله المطوع