كان الأسبوع الماضي أسبوع الأعاصير بحق· ربما يتبادر إلى الذهن أن الإعصار الذي أعنيه هو الظاهرة المناخية أو الجوية التي شهدتها المنطقة وكانت محور اهتمام الناس وحدثا من الأحداث التي ستبقى في ذاكراتهم، كونها أخذت كل هذا الزخم والاهتمام على كل المستويات، بكل ما صاحبها من معلومات متضاربة وشائعات ومخاوف وتطمينات·
هذا جانب أشبعته وسائل الإعلام المختلفة بحثا وتحليلا وتغطية إلى الدرجة التي فتّحت معها جوانب ربما لا يكون لها صلة مباشرة بالإعصار نفسه كظاهرة مناخية، لكنها تفجر أعاصير أخرى نراها أشد خطورة وأكثر أهمية في ضوء ما تابعناه وشاهدناه على مدى الأسبوع الماضي، منذ أن بدأ الإعصار في الخامس من يونيو متزامنا مع الذكرى الأربعين لنكسة يونيو (حزيران) 1967، متضامنا معها أو ساعيا لصرف الأنظار عنها، حيث إن كلا الأمرين وارد في ظل المتاهة التي نعيش فيها·
أول هذه الأعاصير هو هذا الغياب أو النقص الواضح لدينا في المواطنين المتخصصين في مجال الأرصاد الجوية أو"المتنبئين" كما كانت ترد مسمياتهم في البرامج ونشرات الأخبار والتقارير التي كانت تبثها وسائل الإعلام المختلفة خلال أسبوع الإعصار· وباستثناء دكتورة جامعية مواطنة واحدة متخصصة في علم المناخ ومواطن واحد استضافته إحدى القنوات المحلية على استحياء لم نشاهد "متنبئين" جويين مواطنين يزودننا بآخر أخبار الإعصار وخط سيره، على خلاف ما كنا نشاهده في تلفزيون سلطنة عمان الشقيقة التي ضربها الإعصار بشدة، حيث رأينا الكثير من أخصائيي الأرصاد الجوية العمانيين الذين كانوا يوافون المشاهدين أولا بأول بتطورات الطقس، وخط سير الإعصار واحتمالات تغير اتجاهه·
هذا في جانب أخصائيي الأرصاد الجوية أو "المتنبئين" الجويين والمختصين في علم المناخ الذين شاهدناهم خلال التغطية المباشرة وغير المباشرة التي كانت تتم للحدث، وفي جانب آخر من التغطية شاهدنا في التلفزيون العماني الطواقم التي كانت تغطي الحدث من مذيعين ومراسلين - على وجه الخصوص - كانوا جميعهم من العمانيين بينما تنوعت الوجوه والألسنة وتعددت اللهجات في وسائل إعلامنا المختلفة، وكان نطق أسماء بعض مناطق الساحل الشرقي من دولتنا التي تعرضت للإعصار مضحكا لنا ومربكا لهم· الأمر الذي يدعونا للتساؤل بعد مضي أكثر من مئة عام على بدء التعليم في الإمارات وأكثر من خمسين عاما على التعليم النظامي فيها وأكثر من خمسة وثلاثين عاما على قيام الدولة: أليست هذه الفترة كافية كي نرى أبناء الإمارات في كل مجال من مجالات العلوم والتخصصات وميادين العمل؟ وهل ثمة سياسات لسد جوانب النقص في مثل هذه المجالات، لا سيما التي تعكس وجه البلد وصورته؛ تلك التي يأتي الإعلام على رأسها؟
في أوائل التسعينيات من القرن الماضي حاول تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من "أبوظبي" ضمن سعيه لتطوير خدماته الإخبارية تغيير شكل النشرة الجوية التقليدي قبل أن يعرف الناس الفضائيات ومقدمات النشرات الجوية الفاتنات اللواتي نراهن اليوم في مختلف القنوات· وقتها كان يقوم بقراءة النشرة الجوية مذيع أو مذيعة نشرة الأخبار دون استخدام أيٍ من وسائل الإيضاح التي نشاهدها في النشرات الجوية الآن· ولتحقيق ذلك استعان التلفزيون بمجموعة من الشباب المواطنين الذين كانوا يعملون في مركز التنبؤات الجوية بالقوات المسلحة حيث كان يتناوب على تقديم النشرة ثلاثة أو أربعة منهم، الأمر الذي أسعد المشاهدين، وأشعرهم بشيء من الاختلاف، وسلط الضوء على فئة من الشباب نحتاجهم في هذا المجال·
اليوم وبعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما على هذه التجربة التي لم يكتب لها الاستمرار، يدفعنا غياب الوجوه المواطنة عن ساحة هذا التخصص إلى التساؤل: أين ذهب أولئك الشباب الذين يفترض أنهم قد اكتسبوا خبرة في هذا المجال؟ وهل ما زالوا يعملون في المجال نفسه أم أن مجالات أخرى أكثر إغراءً قد اجتذبتهم إليها وأبعدتهم عن تخصص نكتشف أهميته في مثل هذه الظروف والأحداث؟
ثمة إعصار آخر تزامن مع إعصار "غونو" يوم الثلاثاء الماضي الخامس من يونيو تابعناه عبر إذاعة "نور دبي" حيث كان الزميل الإذاعي عادل حسين يخصص للأسبوع الثاني حلقة برنامجه الناجح "قابل للنشر" للمواطنين والأخوة العرب من ذوي الكفاءات والتخصصات النادرة الباحثين عن عمل· وللأسبوع الثاني أيضا تصدمنا كمية الاتصالات التي ترد للبرنامج من مواطنين يحمل أغلبهم مؤهلات جامعية وعليا يبحثون عن عمل في بلد يوفر فرص العمل للوافدين إليه من جهات المعمورة الأربع ويضن بها على أبنائه·
وفي الوقت الذي كنا نتابع فيه أحداث الإعصار على شاشة تلفزيون سلطنة عمان الشقيقة ونستمع إلى شكاوى أبناء الإمارات الباحثين عن عمل في إذاعة "نور دبي" كان إعصار الأسئلة يجتاح عقولنا باحثا عن أجوبة منطقية لهذا الذي يحدث هنا وهناك· فسلطنة عمان التي تكاد مسيرة التعليم والاستقلال فيها تكون متشابهة أو متقاربة مع مسيرة الإمارات قطعت شوطا بعيدا في (التعمين)· ومن يزر السلطنة يدهش لوجود العناصر العمانية في كل مجالات العمل، منذ أن تطأ قدماه أرض عمان وحتى يغادرها، بينما تستفز زائر الإمارات هذه التشكيلة الغريبة العجيبة من الأشكال والأجناس والألسن والألوان التي تستقبله ويتعامل معها منذ أن تطأ قدماه أرض الإمارات وحتى يغادرها· ويرفع من وتيرة الألم أن نستمع إلى كل هذه الأصوات من حملة المؤهلات الذين لا يجدون لهم فرصة عمل مناسبة في وطنهم الذي يحسدهم الجميع عليه بينما يجد فرص العمل متاحة له والأبواب مفتوحة أمامه كل من يفد إليه·
إنها ليست دعوة عنصرية كما قد يتبادر إلى أذهان البعض الذين يتهمون كل من يدعو إلى التوطين بالتعصب لأن هذا حق من حقوق أبناء الوطن على وطنهم· وإذا كان إعصار "غونو" قد جرّ معه أعاصير من نوع آخر، فما ذاك إلا لأن الأحجار تحرك المياه الراكدة بمجرد ملامستها لها حتى لو لم تستقر فيها· صحيح أن الإعصار قد مر - ولله الحمد - على بلادنا دون أن يسبب خسائر في الأرواح، لكنه حرك في النفوس مشاعر تدعونا للاستفادة من التجربة كي لا تقتلعنا من جذورنا أعاصير أخرى أشد خطرا فتلقي بنا خارج الوطن الذي نحبه ونخاف عليه ونفديه جميعا بأرواحنا، وندعو الله أن يحفظه دائما من كل الأعاصير والمحن·
* كاتب إماراتي
aliobaid4000@yahoo.com |