إن الإنسان يبحث دائماً عن حلول للمشاكل التي تواجهه، سواء كانت تلك ذات طابع اجتماعي، أو اقتصادي، أو سياسي، إلا أن المشترك هو البحث عن حل يحافظ فيه على التوازن الداخلي، ودون تدخل من العالم الخارجي، ففي القضايا الاقتصادية يبحث عن مفاتيح ذات علاقة بالمحافظة على مصالح الجميع، دون النظر إلى المحلي أو الإقليمي، أو العالمي، وهو يدرك أن التصادم بين المعادلات الثلاث في نهاية الأمر تدمر الجميع، وإن كانت الدرجات مختلفة، إلا أن الجميع يتضرر من جراء أي قرار، قد يبدو لمصلحة فئة دون أخرى، ومن هنا كانت القرارات تدرس على جميع المستويات؟ ويعلم الجميع أن المحرك الأول للحياة هو الاقتصاد، ذلك العملاق الذي أدخل العالم في صراع استمر على مدى سبعة عقود من الزمان ولكن هل ينظر الجميع إلى الاقتصاد ضمن هذا السياق؟ هل ينظرون إلى الاقتصاد الذي توجه فائدته للجميع؟! في الأفراد كما في الدول يوجد من ينظرون إلى مصالحهم الاقتصادية الخاصة، وبعد ذلك فليكن الطوفان، ألم يكن هذا شأن الامبريالية التي تعمل لتتغول على العالم؟ ولا مانع لديها من أن تدمر البيئة وأن تزيد دول العالم الفقيرة فقراً من أجل مصالحها الذاتية·
ألم يكن كتاب رأس المال هذا الكتاب الاقتصادي الجامع محرضاً لملايين البشر الطامحين بالعدالة والمساواة؟ ليتحكم في توجيه الصراع في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، وليدخل العالم في الحرب الباردة، بين نظريتين استمرت آثارهما على البشرية لمدة نصف قرن من الزمان، ذلك الصراع الذي أفرز منظومة عدم الانحياز، وفي الوقت نفسه أفرز صراع الحضارات، وتيارات الإرهاب في العالم، نتيجة لخطط مواجهة الآخر، والتي أدت إلى تدمير الذات من آليات خلقها العالم الرأسمالي، في مرحلة الحرب الباردة أو التي أدت إلى حرب ساخنة في المعسكر الواحد، وهي التي خلفت الأحزاب ذات الاتجاة نحو الإسلام السياسي، وعززت النزعة الوحدوية في إطار عالم القطب الواحد الذي يريد أن يلغي كل من هم سواه، وأن يلغي مفهوم عدم الانحياز، فهو الذي قرر كل من ليس معنا فهو ضدنا في حربه المشؤومة على العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر·
إن كان الاقتصاد المادي، قد خلق كل هذا التناقض بين أبناء البشرية الواحدة، فما بالك في عالم لا يرى إلا المصلحة الذاتية، للنخبة الاقتصادية الجديدة، التي تم فيها تجاهل الأكثرية في العالم، حين ذاك تكون الكارثة والطامة الكبرى في العالم، حينما يدرك العامة أنها ذاهبة إلى الجحيم، أو إلى عالم النسيان، حين ذاك تعود مقولات القرن التاسع عشر إلى البروز من جديد، بغية إيجاد معادلات جديدة، تنطلق من رؤية التوازن والعمل من جديد لخلق توازن بين الوحشية القاتلة والإنسانية المتعطشة للعدالة، ضمن نظرية جديدة، همها الأساسي خلق التوازن من جديد بين الصراع والحياة المشتركة مرة أخرى·
وهنا لا بد من التأكد بأن الاقتصاد هو الذي يحدد التطور والتقدم، وأن القوى التي تحدده، هي التي تقود التقدم، إلا أن الآلية السياسية هي المسير للاقتصاد، وبالتالي فإن القرار السياسي هو الذي يقود العجلة الاقتصادية وليس العكس·
فقد تكون الأكثرية هي عجلة التقدم الاقتصادي، إلا أن الأقلية السياسية، وما تمتلك من القوة وآلية قانونية، تجعل الأول تابعاً للثاني، مهما كانت قوة المال، إلا أنها لا تستطيع أن تقف أمام قوة السلطة، وهنا يحتاج الموقف إلى قرار في عالم الاقتصاد السياسي، وفي هذا المجال يمكن العودة إلى العدد، وإلى الكم، دون القلة، أو معادلة النخبة، وهي معادلة تحتاج إلى دراسة من جديد·
وقد نعود إلى نظرية النخبة، سواء كانت اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، في تحديد مسيرة التاريخ· ألم تكن القلة هي التي تسير الجماهير، في ظل معادلات عديدة؟ سواء كانت عرقية أو قومية أو أممية؟ حيث لم يكن للكم أثر في تحديد القرار، كانت الأقلية هي التي تسير التاريخ منذ الحضارات السابقة حتى الحديثة منها، كان القرار من الأقلية تحكم فيه الأكثرية، ولنا فيما يحدث في الدول الحديثة عبرة لمن لم يدرس التاريخ، وأن القرار هو للنخبة، قليلة العدد ضد الأغلبية، أليس هذا هو الواقع الحالي الذي لا تؤمن فيه نظم عديدة بالديمقراطية التي تعني حكم الأكثرية، تعني حكم من يمثل الناس وقواهم المختلفة؟ ومن العجب العجاب أن الدول المتقدمة التي تطبق الديمقراطية في بلدانها تدعم وتؤيد ديكتاتوريات تحارب الديمقراطية في بلدان أخرى، وهنا يأتي الشاهد من دعم الولايات المتحدة لبينوتشه، الذي انقض على ديمقراطية اللندي في التشيلي، ليغرق البلاد في الدم سنوات وسنوات، قبل أن تنتصر الديمقراطية من جديد في تلك البلاد اللاتينية·
أما الجانب الاجتماعي في المعادلة، وهو الجانب المهم فيها، فإن الكثير من الدراسات والأبحاث لا تعطيه الأهمية الكافية، على الرغم من أنه هام جداً، لأن الصراع الاجتماعي، يظل دائماً في الظل، إلا أن الاجتماعي، يظل مؤثراً في الجانبين الاقتصادي والسياسي، لأن الصراع هو الأساس لكل العاملين سواء في الجانب الاقتصادي، أو السياسي، أو الاجتماعي، حيث إن النظام الاجتماعي هو الحياة، ولأن الطبقات الاجتماعية هي التي تحسم الصراع في النهاية·
* رئيس وحدة الدراسات-"البيان"
malmutawa@albayan.ae |