| تنشط التكهنات في انتظار تسليم السلطة الى العراقيين حول طبيعة وأسلوب توزيع المهام والمسؤوليات السياسية عرقيا وطائفيا· آخر تلك التكهنات كان بموجب قرار رئيس الإدارة المدنية في العراق الأمريكي "بول بريمر" الذي أعلن أن إنشاء وزارة الدفاع وتشكيل لجنة للأمن القومي ستتم بصورة تتيح للعراق فرصة حماية مواطنيه من أي عدوان خارجي، حيث تقتضي اللمسات بأن يكون وزير الدفاع شيعيا علمانيا مدنيا فيما يكون رئيس الأركان كرديا بارزانيا عسكريا، وهذا تقاسم يرضي الشيعة معنويا، لكنه يضع القوة العسكرية العراقية من الناحية الفعلية بأيدي الكرد المؤيدين للحزب الديمقراطي الكردستاني، واستبعاد السنة معنويا، والطالبانيين عمليا، واستنادا إلى مثل هذا التصور سيتم تقسيم الحسبة السياسية في العراق على الرقم ثلاثة بدءا من الرئاسة ونزولا الى المهام السياسية الأخرى، أحد الأضلاع الثلاثة سيكون شيعيا والثاني سنيا والثالث كرديا·
قد يحسم مثل هذا التقسيم الثلاثي قضايا سياسية بحتة، لكن العراقيين اليوم يرون أن هنالك تقسيما آخر داخل المجتمع العراقي آخذاً في التشكيل ولا يقل في أهميته عن التقسيمة العراقية العرقية والطائفية، وقد عبر الكاتب "لطفي حاتم" في مقال له بعنوان "المرحلة الانتقالية وتنازع اتجاهات تطورها" عن أهمية الأخذ ببعض التغيرات الاجتماعية الناتجة عن التحولات السياسية في العراق حيث يقول: "استنادا الى التغيرات الطبقية الجارية في المجتمع العراقي تتشكل قوتان اجتماعيتان أساسيتان، إحداهما القوى الطبقية الجديدة التي أفرزتها السياسة الحربية للديكتاتورية والحصار الاقتصادي، والتي ستزدهر بفعل عمليات إعادة بناء الدولة العراقية، حيث سيكون نموها وتطورها مرتبطا بالاحتكارات الدولية، وثانيهما القوى الشعبية المهمشة التي تشكل الكتلة السكانية الكبيرة التي يمثل اليسار الديمقراطي أحد التيارات السياسية المعبرة عن مصالحها السياسية وتطلعاتها الطبقية، وإزاء تحرك التكوينات الطبقية للمجتمع العراقي يثار السؤال التالي: ما مضمون وشكل الديمقراطية في العراق؟ وما هي القوى الاجتماعية الحاملة للمشروع الديمقراطي؟ خاصة في ظل الحراك الاجتماعي المتواصل في التركيبة الطبقية والذي تحدد بمواقع ثلاثة: أولها تحول العشيرة الحاكمة الى طبقة جديدة، وثانيها: تفكك الطبقة الوسطى وانحدار الكثير من شرائحها الى الطبقات الفقيرة وآخرها: انهيار الطبقات الكادحة وتحولها الى قوى هامشية بعد إخراج قواها المنتجة من حلبة الإنتاج"·
إن أصعب ما تخلفه الحروب بعد الدمار السياسي والاقتصادي، هو ذلك المتعلق بالبنية والشكل المجتمعي بصورة عامة، وهو الأمر الذي غالبا ما تغفله المعاهدات والترتيبات التي تعقب تلك الحروب لأسباب قد تتعلق بصعوبة التحكم بعملية الحراك الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب، أو لعدم اكتراث أو جدية المعنيين لأخذ مثل هذا الأمر في عين الاعتبار، واليوم يتحدث القادمون من العراق كما العائدون إليه عن بعض أشكال ذلك التحول العنيف داخل المجتمع العراقي والذي لا يستطيع أحد أن يتكهن بوجهته أو نهايته، وهو تحول سيصب مباشرة - إن لم يكن اليوم فحتما في الغد - في كل تفاصيل الترتيبات السياسية التي تجري مناقشتها اليوم·
لقد حملت الحقبة الصدامية في داخل نسيجها السياسي، نسختها الخاصة للمجتمع العراقي، مع كل ما تميزت به تلك النسخة من خصوصية في الشكل والأبعاد، والآن مع غياب تلك الحقبة، تتحلل نسخة للمجتمع العراقي سادت ولأكثر من ثلاثة عقود، لتحل مكانها نسخة جديدة ستفرزها حتما الترتيبات السياسية الجديدة ذات الأضلاع الثلاثة: الشيعية والسنية والكردية، رحم الله عالم الاجتماع العراقي "علي الوردي" الذي كان لإسهاماته الأدبية في دراسة المجتمع العراقي في ظل التحولات السياسية أثر بارز في رسم صورة العراق إبان مراحل سابقة، وما أحوج العراق اليوم الى عالم اجتماع ثري المعرفة والاطلاع ليساهم مع "بول بريمر" ومجلس الحكم الانتقالي في وضع نظام المحاصصة في العراق حتى لا ينكسر ضلع من أضلاع العراق الثلاثة·
suad.m@taleea.com |
