ميدان رمسيس الذي شهد خلال خمسين عاما كثيرا من التغيير والتبديل لم يثمر أي منها وضعا مستقرا قابلا للتجميل وإضافات جديدة· بدأ هذا التاريخ الطويل في النصف الأول من الخمسينات من القرن الماضي حين نقل تمثال رمسيس الثاني الضخم من مرقده في "ميت رهينة" لينتصب أمام محطة سكة حديد العاصمة وكأنه يرحب بزائريها من شاطئ البحر المتوسط الى أقاصي الصعيد· وكنا نحسب أن الميدان سيحيط به ويحميه من أبراج شاهقة تتجاوز قامة التمثال، ولكن يبدو أن الأمور سارت الى نقيض ذلك فلا تمضي ثلاث أو أربع سنوات دون أن نسمع أو نرى تخطيطا جديدا لهذا الميدان التعيس·
وآخر ما قرأت في الصحف المسماة بالقومية هو أن محافظة القاهرة بعد أن انتهت من ثالث تخطيط في السنوات القليلة الماضية تنوي التعاقد مع شركة أمن "قطاع خاص" لتحمي المساحات الخضراء والمناظر الجميلة من أقدام المواطنين ومن عبث الصبية الذين لا يجدون مكانا للعب "الذي هو ضرورة حياة لمن في سنهم" إلا الشارع·· لم تعد هذه الأشياء غريبة في عصر الانفتاح على كل ما يوصل مالا لجيوب بعض الأفراد·
وفي غيبة البيانات الرسمية تبقى الأسئلة الأساسية التالية بلا جواب، كم كانت تكلفة كل تخطيط هدم لتنفيذ التخطيط الجديد؟ وكم كان نصيب المقاولين منه؟ ونظرا لانتشار الفساد كم كان نصيب ما حصل عليه مسؤولون عن الرقابة على التنفيذ في شكل حوافز مشروعة أو عطايا خفية؟ ومن ناحية أخرى جاء في الصحف نفسها نبأ عظيم "محافظة القاهرة ترى ضرورة إعادة التمثال الى مرقده لأنه عقبة تواجه كل تخطيط رشيد" وتعارض وزارة الثقافة هذا بكل شدة وكذلك خبراء الآثار·
ونحن نسمع الحكام يتحدثون عن دخول مصر عصر التكنولوجيا ويزعمون أننا نصدر بمئات الملايين برمجيات الحاسوب، ولدينا وزارة للاتصالات وأخرى للصناعة والتكنولوجيا، ولكن واقع الميدان العصي يؤكد أن المسؤولين لم يسمعوا عن شيء اسمه "نماذج المحاكاة" يصور الأوضاع المقترحة في أي خطة ويستخرج الحاسوب كل نتائجها، وفي بلاد الله المتقدمة تحدد مسيرة شبكة المرور في المدينة، أو شبكة الطرق على مستوى القطر كله في ضوء نماذج محاكاة متعددة بغية التوصل الى التخطيط الأمثل ولو ملكت محافظة القاهرة هذه الآليات البسيطة "بالنسبة لإمكانات البرمجيات في حل مسائل أعقد من شبكة المرور عشرات المرات" لما أنفقت نحو 25 مليارا في بناء "كبارى" وشق أنفاق لحل "مشكلة المرور" دون أثر إيجابي يذكر على واقع أوضاع المرور في العاصمة·
هذا نقد لتدني الإدارة في كل أجهزة الدولة التي تتعامل مع الجمهور وليس نقدا لأي مسؤول بذاته· قبل أكثر من ربع قرن قال ممدوح سالم "رحمه الله" عند توليه رئاسة الوزراء "مصر في حاجة الى ثورة إدارية" ولم يفعل الزمن أكثر من زيادة إلحاح هذه الحاجة· |