رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 11 اكتوبر 2006
العدد 1746

بين قرطبة ودبي
ياسر سعيد حارب
yasser.hareb@gmail.com

لم يكن يخطر ببال مغيث الرومي وهو يسرع الخطى بخيله وفرسانه السبعمئة في ظلمة الليل أن المدينة التي سيفتحها بسهولة ويسر، ستسمى في يوم من الأيام "جوهرة العالم" وأن نورها سيضيء دياجير الجهل في أوروبا وستشرق شمسها شامخة في سماء العلم والاقتصاد والأدب·

لقد كانت قرطبة في عصر الخلافة الأموية في الأندلس وبعده مهداً للأدب والصناعة والتعليم والزراعة والفنون، وكانت مصطلحات الحضارة تتزاحم في أروقة مكتباتها التي بلغت 70 مكتبة، وكانت العمارة الأندلسية شامخة على جدران مسجدها الكبير الذي لا تزال أقواسه ملهمة المهندسين المعماريين والفنانين في شتى بقاع الأرض·

لقد بلغت قرطبة في عهد عبدالرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر أوج مجدها وازدهارها، ويذكر بعض المؤرخين أن عدد المحلات في قرطبة بلغ أكثر من80  ألف محل، وبلغ عدد مساجدها 3877 مسجداً يطلب فيها الدين والعلم معاً، وأصبحت بعضها كجامع قرطبة الكبير جامعة عالمية يفد إليها الناس من جميع بقاع الأرض·

لقد بدأ عهد الناصر بتأسيس البنية التحتية في قرطبة، فشق الطرق وحفر قناة مائية للماء العذب من جبل قرطبة إلى داخل المدينة ليستفيد منها المزارعون والسكان، ثم انتقل إلى الإصلاح الزراعي فجلب الأشجار والنباتات من مختلف الأماكن في الأندلس وغيرها، ونمت زراعة الحبوب وقصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز لتزدهر بذلك صناعة منسوجات الحرير· ولم يكتف بذلك فوضع تقويما خاصا للزراعة لكل موسم حتى يستطيع المزارعون أن يستفيدوا من المحاصيل الزراعية طوال العام·

وكان للصناعة شأن في عصر الناصر، فأنشأ دوراً لصناعة السفن ومصانع للأدوات الحربية، وأضاف إلى هذه الصناعات الثقيلة صناعات أخرى كالأدوية والزيوت والصناعات الفنية كفن النحت على الخشب وفن صناعة التحف المعدنية، وصناعة المنسوجات التي كانت موضع إعجاب لدى الأوروبيين لجودتها·

ثم انتقل إلى الإصلاح الحكومي، فقام بتنظيم المالية وقسمها إلى عدة أقسام كخزانة الدولة وإدارة بيت مال المسلمين وإدارة خاصة للخليفة، ونظم الجمارك والخراج والجزية والضرائب ووضع نظاماً دقيقا لحسابها وجمعها· ثم ابتكر البريد وطوره وأسس مركزاً لتجميع البريد ثم توزيعه بنظام دقيق، واستحدث شرطة للنهار وشرطة لليل، وشق طرق المدينة بحيث تغلق معظم طرقاتها ليلاً وتفتح الطرقات التي تكون تحت إشراف الشرطة لحفظ الأمن في المدينة·

واستحدثت في عهده الشرطة الوسطى التي تختص في البت في الجرائم والخلافات التجارية، ونظّم المحاكم فأنشأ محاكم المظالم - التي تشبه محكمة الاستئناف اليوم - ووضع معايير دقيقة لاختيار القضاة·

وفي عهد ابنه الحكم ازدهر التعليم وتصدر العلماء والمثقفون مجلس الخليفة، وحظيت الكتب بمكانة عالية في عهده - وعهد أبيه أيضا -  فلقد بلغت عدد الكتب في مكتبة قرطبة400  ألف كتاب، ووضع لها أربعين فهرساً، وانتشر النسّاخون والمجلدون الذين أتقنوا فن تجليد الكتب، والأجمل من ذلك أنه لأول مرة ينتشر الباحثون الذين يبحثون عن معلومة لمن أراد ذلك مقابل مبلغ مالي· ونالت المعرفة في عهد الحكم تقديرا واحتراماً إلى درجة أن التجار كانوا يشترون الكتب ليتفاخروا بها لا لقراءتها، ويذكر المؤرخون أن الحكم قد أرسل بوفد إلى العراق لشراء أول نسخة من كتاب الأغاني بألف دينار ذهب·

وبرز في قرطبة علماء وأطباء أمثال الزهراوي الذي ترجمت كتبه إلى اللاتينية واليونانية، والفيلسوف الكبير ابن رشد الذي وصل إلى مكانة عالمية لدرجة أن مايكل أنجلو رسمه من ضمن اللوحة التي أبدعها في سقف معبد سيكستين بالفاتيكان، وذكره الفيلسوف الشاعر دانتي في ملحمته النشيد الثالث·

ووصل العلم في قرطبة إلى درجة أنه لم يبق فيها شخص واحد لا يجيد القراءة والكتابة، وتهافت على جامعتها طلبة العلم من أوروبا حتى أن بابا الفاتيكان سيلفستر الثاني تلقى العلم فيها، ليعود إلى أوروبا ويعمل على تأسيس جامعة لنقل الكتب العربية إلى اللغات الأوروبية·

وفي دبي كنا أول من أطلق شرارة التغيير والتجديد في المنطقة، وكنا أول من عمل على فتح الأسواق وتحرير القيود التجارية، وصنعنا لأسواقنا ميزة تنافسية وضعتنا حسب تقرير "المعهد العالمي للتطوير الإداري" بسويسرا في المرتبة السابعة عشرة بين أقوى60  اقتصاداً في العالم· وفي دبي كانت البنية التحتية - ومازالت - من أولويات الحكومة، حيث خصصت أكثر من 74 مليار درهم للطرق والنقل على مدى السنوات الخمس عشرة القادمة، ناهيك عن الخدمات الأخرى كالاتصالات والطاقة·

وفي دبي أقمنا مشاريع عقارية عملاقة كبرج دبي ومشاريع النخلة والخليج التجاري ودبي لاند وغيرها من المشاريع التي تشكل في بعضها جزءا مهما من البنية التحتية وفي بعضها الآخر نهضة عمرانية لابد أن تتحلى بها أي مدينة عصرية، أضف إلى ذلك تحول دبي إلى قبلة للمؤسسات المالية العالمية التي ستصنع من دبي على مرور الوقت مدينة مالية كطوكيو ونيويورك، ووصلنا حسب التقرير المذكور آنفاً إلى المرتبة السادسة في الأداء الاقتصادي·

وفي دبي كنا وما زلنا ملتزمين بالتطوير الحكومي، فوضعنا مشاريع للتميز الحكومي كبرنامج دبي للأداء الحكومي المتميز، والحكومة الإلكترونية، ومعاهد التطوير الإداري والحكومي، وبرامج لتأهيل القيادات الشابة وقيادات الصف الثاني في الحكومة، ووضعنا خطة استراتيجية لتنمية الإمارة وتطوير مختلف جوانب الحياة فيها، وغدت مؤسساتنا الحكومية مؤسسات مجتمعية تعمل بمفاهيم الإدارة الحديثة، لتعتلي الحكومة في دبي المرتبة التاسعة في فاعلية القطاع الحكومي بين أفضل ستين حكومة عالمية في التقرير نفسه·

ولكن ماذا عن الصناعة التي تعد التحدي الحقيقي لأي اقتصاد عالمي والمحك لنجاح أي تجربة تنموية في التاريخ؟ فدبي اليوم بالرغم من المكانة العالمية التي وصلت إليها إلا أنها ليست مؤثرة في الأحداث الاقتصادية، وبالرغم من شهرتها فإنها تفتقر إلى النفوذ العالمي، ولذلك يمكننا أن نقول إن العالم ليس معتمدا على دبي، ولن يكون كذلك حتى نرى على أرفف المحلات التجارية بضائع كتب عليها "صنع في دبي"·

فلماذا لا تستغل دبي المقومات التي تمتلكها اليوم والمقومات التي ستتوافر لها قريبا بعد انتهاء المشاريع العقارية الكبرى كالأيدي العاملة الرخيصة ورأس المال القوي والبنية التحتية المتكاملة، والقيادة الطموحة، والسيولة المالية، والخبرة الإدارية والسمعة العالمية، والأهم من هذا وذاك القيادات الشابة ذات الفكر العالمي والتي استفادت من احتكاكها بالثقافة العالمية عن طريق الدراسة والسفر والعمل؟ ومتى ستستثمر دبي في التعليم وتنشئ الجامعات والكليات والمعاهد المهنية وغيرها من المؤسسات التعليمية التي لا يمكن أن تحقق أي نهضة أو حضارة من دونها؟

عندما وصلت الأندلس إلى أوج نهضتها بعث جورج الثاني ملك إنجلترا إلى هشام الثالث في الأندلس بالرسالة التالية: "من جورج الثاني ملك إنجلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام:

بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقيّ العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة· وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز، لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وفي حماية الحاشية الكريمة، والحدب من قبل اللواتي سوف يقمن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص·

من خادمكم المطيع، جورج"·

فهل تستطيع دبي أن تحقق ما حققته قرطبة قبل ألف عام؟ وهل يمكنها أن تخطف الإشعاع الحضاري الذي بدأ نوره يخبت في الغرب - وإن كان بوتيرة بطيئة - من منافسيها العالميين؟ وهل فعلاً ستمتلك دبي مقومات الحضارة في العقدين القادمين؟

كاتب إماراتي

yasser.hareb@gmail.com

�����
   

كلاكيت رمضاني:
يوسف الكندري
رمضان العراق:
د. محمد حسين اليوسفي
أصدقاء الأمس أعداء اليوم:
د. حصة لوتاه
بمقاومتنا نحرر أسرانا:
عبدالله عيسى الموسوي
بين قرطبة ودبي:
ياسر سعيد حارب
في ذكرى رائدة من رواد العمل الإنساني والاجتماعي والسياسي ليلى فخرو:
محمد القديري
التواصل في رمضان:
د. فاطمة البريكي
الفوضى المنظمة:
فيصل عبدالله عبدالنبي
المراقبة المغيبة:
المهندس محمد فهد الظفيري
"والله اللي مكتوب صج"!!:
على محمود خاجه
شريعة المناقصات!!!:
سعاد المعجل
رمضان كريم:
المحامي نايف بدر العتيبي
حل إسلامي لمشكلة المرور:
صلاح الهاشم