يعتبر موقف الولايات المتحدة الرسمي والمضاد للإسلام والمسلمين، وبالذات في مرحلتنا التاريخية الحالية، أمرا لا يخفى على أحد، حتى البسطاء من الناس وغير المعنيين بشكل كبير بقضايا السياسة أو تحولات العولمة في العالم· فالذي يحدث على صعيد الواقع، وبشكل يومي، لا يشكل إلا سعيا منظما من تلك الدولة للقضاء على الإسلام، وبأساليب مختلفة تتراوح في وسائلها بين العنف المسلح والمباشر - ومنها الحروب الرسمية وغير الرسمية - والمحاولات الدؤوبة والمنظمة التي تسعى نحو تفتيت كل ما يمثله الإسلام من ركائز ومن قيم· والذي يعرف السياسات الاستعمارية للولايات المتحدة يعرف أنه في هذه المرحلة الحالية يشكل الإسلام إحدى الذرائع المهمة للتسلط والاعتداء على الشعوب التي يتمثل فيها، ليس لأن الإسلام دين عنف، كما يشيع أعداؤه، وإنما بسبب مطامع اقتصادية، وربما أيضا بسبب أن في جوهر الإسلام قيما ترفض إبادة الآخرين والتعدي على حرماتهم وأملاكهم واستباحة حياتهم· وكلنا ندرك ذلك ونعرفه جيدا، ويعرفه حتى المفكرون غير المتحيزين للتسلط في داخل الولايات المتحدة نفسها·
من جهة ثانية، العارفون بالأساليب السياسية لتلك الدولة يعرف جيدا أن من تحاربهم الولايات االمتحدة اليوم، وهم من تسميهم بالإسلاميين المتشددين، ليسوا إلا حلفاء وأصدقاء الأمس· وهنا لا أقصد الحلفاء من السياسيين ورؤساء الدول وقادتها فقط، أو حتى ما يسمى اليوم بالقيادات أو المنظمات السياسية الإسلامية، مثل القاعدة أو طالبان أوغيرهم، ولكن المقصود أيضا حتى الأفراد من الناس شبه العاديين، وأقصد أيضا المنظمات الطلابية أوالطلبة المتدينين المستقلين وغير المنتسبين لأية جماعة منظمة، والذين اكتشفت فيهم الولايات المتحدة في يوم من الأيام توجههم نحو التمسك الواضح بدينهم وتمثلهم له في أساليب حياتهم ومعيشتهم، فسعت إلى التقرب منهم وإظهار التشجيع لهم حتى تحقق من خلالهم أهداف كانت تسعى للوصول إليها في تلك المرحلة· وهنا تحضرني واقعة عشتها أنا شخصيا أثناء دراستي في إحدى الجامعات الأمريكية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي· في تلك السنوات لم تكن ما يسمى بالتيارات الإسلامية اليوم هي التيارات القوية في أوساط الطلبة، وبخاصة أولئك المعنيين بقضايا وأمور بلدانهم مثل قضايا التخلص من الاستعمار أو مناهضته أو قضية فلسطين، أو قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان أوقضايا المرأة، أو غيرها من القضايا والأمور المصيرية، بل ما كان سائدا في أوساط أولئك الطلبة هي التوجهات الليبرالية أو اليسارية أو القومية· وهنا سعت، لا أقول الولايات المتحدة كقيادات سياسية، بل الجهات غير الرسمية التي تمثلها، ومنها مسؤولون في الجامعات، إلى محاولة تفتيت تلك التيارات في أوساط الطلبة، بحكم أن العدو الأول لها في تلك المرحلة كان الاتحاد السوفييتي، وبالتالي أية توجهات يسارية أو ماركسية قد تصب في خدمة العدو· لذا، سعت بعض منظمات الحكومة الأمريكية للتغلغل في أوساط الطلبة وتعزيز وتشجيع أصحاب الميول الدينية منهم، وتوفير كل الإمكانات المادية التي قد يحتاجونها لتنظيم أنفسهم ونشر أفكارهم· ومن المفارقات التي كانت مثيرة للقلق وللريبة معا، والتي حدثت في تلك الفترة معنا، أن من سعى ليكون همزة الوصل بين أولئك الطلبة المتدينين وبين إدراة الجامعة لتسهيل مهمة تنظيمهم، كما قيل لنا، هو أحد الأشخاص اليهود الموجودين في تلك المؤسسة، وهو أمر بطبيعة الحال له مدلولاته التي يعرفها المهتمون بمثل هذه الشؤون·
اليوم حين نسمع بكمية الإساءة والتعدي والعنف المعنوي والمادي الذي يتعرض له على سبيل المثال طلبتنا الملتزمون بدينهم، نستدعي تلك المرحلة ونتذكر المواقف وكيف اختلفت باختلاف المرحلة والأهداف· فأولئك الطلبة الذين احتاجت الولايات المتحدة في يوم من الأيام لتعزيز أنشطتهم وتوجهاتهم، خدمة لمصالحها الخاصة، عادت اليوم لتضعهم في قائمة أعدائها ولتمارس ضدهم جميع أشكال الإبادة المعنوية والمادية والإنسانية· والمتابع لوسائلنا الإعلامية المقروءة (فالمرئية لا تسعى لإظهار هذه الأمور!) يعرف ما تعرض له بعض طلبتنا من معاملة متنافية تماما مع كل القوانين والأعراف العالمية، معاملة تراوحت ما بين التحقيق معهم وتعريضهم لكل أنواع العنف النفسي والجسدي والإساءات الأخلاقية غير الإنسانية· مثل الحادثة التي تعرض لها أحد طلابنا الملتحقين بإحدى الجامعات الأمريكية في أحد مطارات ذلك البلد، وفيها لم يتم فقط الإساءة إليه في تحقيق طويل وغير منصف وغير عادل، بل تعرضت عائلته المكونة من زوجته وأولاده الصغار إلى إساءات عديدة، ومنها أن الأطفال، وكان بينهم رضيع، لم تقدم لهم حتى قطرة ماء أو كسرة خبز وأنهم احتجزوا في غرفة تتراكض فيها الفئران وألقت لهم بطانية قذرة نتنة الرائحة ليناموا عليها، ثم بلغ التعذيب أقصاه حين أرادت الزوجة الذهاب لدورة المياه فقيل لها إنها لن تذهب دون أن يرافقها أحد رجال الأمن لداخل المكان، وحين أصرت الزوجة على عدم قبول مرافقة الرجل لها وافقوا على أن تذهب، ولكن في صحبة امرأة من الأمن عندهم، والذي يعرف أطباع العرب والمسلمين يدرك ما ينطوي عليه مثل هذا التصرف من انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان ومن الإساءة، بخاصة حين يكون المتعرض للأمر امرأة·
بالطبع لم يكن أولئك الطلبة ولا عائلاتهم المرافقة لهم يحملون في هويتهم ما يجعلهم عرضة لكل تلك الانتهاكات أو الإساءة، غير أنهم كانوا من الشباب الملتزمين بأمور دينهم، وليست لهم أية نشاطات سياسية، لكنهم يصنفون اليوم على أنهم من الأعداء، بعد أن كانوا يعاملون كأصدقاء، وهذه هي إحدى تجليات ما يسمى بـ "البراغماتية"، أي تغليب المصلحة الخاصة على القيم وعلى الأخلاق·
أيضا من الحقائق التي يجب ألا تغيب عن بالنا، ونحن ننظر في المواقف العدائية ضد الإسلام والمسلمين من قبل مراكز القوى في الولايات المتحدة والغرب أيضا، ومنها مواقف الإمبراطوريات الإعلامية، حقيقة مركزية، وهى أن تلك الدول، كما قلنا تبدل أصدقاءها وتبدل أعداءها أيضا بحسب ما تقتضيه مصلحتها· وهنا علينا أن نتذكر أنه حتى الدول التي تضعها الولايات المتحدة اليوم على قائمة أعدائها، تعاملت معها في يوم من الأيام بشكل مختلف خدمة لمصالحها· وهذا ينطبق بدوره على الأشخاص، فالرئيس البنمي نورييجا كان أحد حلفاء أمريكا المهمين، لكن حين تعارضت المصالح أصبح وجوده يشكل خطرا وتهديدا لمصالح أمريكا الوطنية، وبناء عليه، تم التخلي عن نورييجا وأصبح يروج عنه أنه مجرم وتاجر مخدرات· ولا ننسى هنا شاه إيران محمد رضا بهلوي، وحتى صدام حسين، فكل هؤلاء كانوا في يوم من الأيام حلفاء مهمين للولايات المتحدة، حين كانت بحاجة لهم، ولكن عندما تقاطعت المصالح، أو بعد أن أدوا الدور المطلوب منهم ولم تعد هناك حاجة لهم، تخلت عنهم أمريكا ورمتهم كما يقول المثل العربي الدارج "رمي الكلاب"·
لا أعتقد أنني أحتاج أن أقول أكثر مما قلت في هذا الموضوع، فقط أحب أن أعبر هنا عن الحيرة التي أصاب بها في بعض الأحيان عندما أرى في أوساطنا من يروجون لسياسات تلك الدول الاستعمارية، لا بل يحملون راية الدفاع عنها، فهم إما أنهم لا يقرؤون التاريخ، أو أنهم يقرؤونه بشكل مغلوط ، أو في أحسن الأحوال ربما يعتقدون أنهم سيكونون أذكى وأكثر دهاء في التعامل مع تلك القوى، أو أنهم سيكونون في وضع أفضل من الأوضاع التي عرفها الأصدقاء السابقون· وهذا أيضا شعور لا تسنده الوقائع التاريخية، فأصدقاء الأمس لم يكن ينقصهم الدهاء ولم يكن ينقصهم الذكاء، ومع ذلك صاروا هباء منثورا· والواضح أن سنة الحياة لا تقوم على العبرة والموعظة، بل يكرر البشر أخطاءهم وتبقى حكمة الخالق أكثر صدقا، أن الاختلال في الحياة وفي النفس يقود إلى دمارها·
* جامعة الإمارات |