رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 20 سبتمبر 2006
العدد 1743

المتجرئون على الإفتاء
ياسر سعيد حارب
yasser.hareb@gmail.com

كانوا جالسين في سكن الطلبة في استراليا، وكان أحدهم يتحدث عن أحد الكتاب المعاصرين الذين - كما يراهم هو- من الضالّين والمضلّين والذين يجب أن تحرق كتبهم ويجب أن يمنعوا من الكتابة، فسأله زميله: "أي كتاب قرأت لهذا الكاتب؟" فتردد الأول ورد بامتعاض: "لم أقرأ له أي كتاب، ولكن الشيخ الفلاني - أي رجل دين - قال فيه هذا الكلام" فسأله زميله مرة أخرى: "وكم كتاباً قرأت لهذا الشيخ؟" فرد بعد أن احمر وجه واكفهرّ: "لم أقرأ له أي كتاب" فقال له زميله: "اذهب واقرأ كتب كليهما ثم تعال لنتناقش في الموضوع"·

يحكي لي هذه الواقعة أحد زملائي الذين أتموا دراستهم العليا في استراليا، وقال لي بأنه لم يكن يعرف الكاتب الذي هاجمه زميله ولا الشيخ الذي كان سبباً في هذا الهجوم، فأثارت هذه الواقعة فضول زميلي الذي ذهب وقرأ مجموعة من كتب الرجلين، وحينها تفاجأ بأن الشيخ لم يتفوه بما قاله زميله في تلك الجلسة، وتفاجأ أكثر عندما اكتشف بأن ذلك الكاتب المعاصر لم يكن في آرائه وأطروحاته شيء مما ذكره زميله، فتساءل كيف يمكن لأحد أن يكون بوقاً لغيره دون أن يقرأ له ويطلع على أطروحاته؟ ولماذا لم يحلل زميله أو يفكر في رأي الشيخ الذي سمع به فقط قبل أن يكيل اتهامات مجحفة لكاتب ما؟

وقرأت قبل عدة أيام على أحد مواقع الإنترنت فتوى لأحد المشايخ تقول بتحريم الهاتف النقّال المزود بكاميرا! وما أثار دهشتي هو سعي بعض الناس إلى الحصول على "فتوى" لموضوع لا شأن له برجال الدين أو المشايخ؟ فإذا كنا سنلجأ إلى المشايخ في كل صغيرة وكبيرة في الحياة فهذا يعني أن كل واحد منا يريد له شيخاً متفرغاً لشؤونه اليومية، إما ذلك أو أن نبحث في كتب الفقه عن كل حركة نقوم بها في حياتنا· إن مبدأ الحكم على جواز أو حرمة مثل هذه الأمور البسيطة في الحياة قائم على مفهوم الفائدة والضرر، فالسكين التي نقطع بها الفواكه يحرم استخدامها في قتل الإنسان، والسيارة التي نستخدمها في قضاء حاجتنا تكون حرام علينا إن استخدمناها في تهريب المخدرات، ولكن أن تحرّم شراء هواتف الكاميرات لمجرد استخدام البعض لها بصورة غير شرعية فهذا ضحك على الذقون وتسفيه للعقل البشري·

لقد تعود المجتمع العربي الإسلامي على استفتاء الفقهاء في ما شكل عليهم في أمور دينهم، وهو تطبيق لقوله تعالى :"فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" ولكن شاع بين كثير من المشايخ تجرؤهم على الإفتاء في كل شيء وفي أي شيء، حتى لم يبقوا لأهل الاختصاص والخبراء أمراً إلا فرضوا وصايتهم عليه، وكثيراً ما نرى ونسمع أناساً يتصلون ببرامج الإفتاء في القنوات التلفزيونية والإذاعات ليطلبوا من "الشيخ" حل مشاكلهم الأسرية أو مساعدتهم في تربية أبنائهم وغير ذلك من أمور الدنيا التي لم يتعلمها الشيخ أو يطلع عليها، وبالرغم من ذلك نجدهم "معظم المشايخ" لا يتوانون عن إعطاء إرشادات وتعليمات لا تمت للعلوم الإنسانية بأية صلة، متجاهلين بذلك المتخصصين الذين قضوا جلّ حياتهم في الأبحاث العلمية أو التطبيقات العملية، فاليوم لم تعد العلوم ضحلة كما في السابق، وأصبح المجتمع يعج بالأخصائيين الاجتماعيين وعلماء التربية الذين يمارسون تخصصهم بشكل علمي وعملي، ليضيفوا ما تعلموه إلى رصيدهم ورصيد المجتمع، ويساعدوا أصحاب المشاكل على الوصول إلى بر الأمان·

ولقد أصّل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - قاعدة عظيمة غفل عنها كثير من مشايخ اليوم، وذلك عندما رأى أهل المدينة يلقحون النخل فقال: "لو لم تفعلوا لصلح" فتركوه فخرج بسراً لا يصلح للأكل فقال عليه السلام: " أنتم أعلم بأمر دنياكم"· ولم يكتف المشايخ بمخالفتهم لهذه القاعدة الصريحة، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حتى صار العديد منهم يفتي الناس دون أن يخبرهم لماذا وكيف استنبط هذه الفتوى مخالفاً بذلك الأئمة الأعلام الذين كانوا يناقشون الناس ويحاجونهم ويقبلون "النقد" حتى يصل الطرفان إلى قناعة ما·

إن النّقد البنّاء هو ركيزة أساسية من ركائز المجتمع العالمي الذي تتجاذبنا أفكاره وتغزونا مؤسساته، والذي لم نستطع حتى الآن أن نخوض غماره بقوة وثبات لأننا لم نفهم قواعده القائمة على تعريض كل شيء - ما عدا النص المقدس - إلى النقد والتحليل والمقارنة· كنت أتحدث مع أحد أصدقائي من السويد عن هذا الموضوع فقال لي بأنه ترقّى في عمله لأنه كان يناقش مديره وينتقد كثيرا من السياسات التي تتبناها إدارته، فالنّقد عندهم أساس التفكير - لا التكفير - وهو في عرفهم أحد أهم ركائز الحياة كما قال ديكارت: "أنا أفكر إذن أنا موجود" وهو الذي جعل من دول الشمال أكثر دول العالم نمواً في معظم الجوانب التنموية في المجتمع··· وفي نهاية الحديث ختم صديقي كلامه بقوله: "إذا توقفنا عن النقد سنتوقف عن التقدم"·

ونحن يوم سلّمنا بكل ما يقوله الشيخ الذي لا يمجّد شيئا من العلوم إلا العلم الشرعي - وهو أشرف العلوم بلا شك - هجر المتخصصون تخصصاتهم وتفرّغوا للعلم الشرعي حتى خلت الساحة منهم، وفي هذا السياق يذكر الأستاذ فهمي هويدي في كتابه (حتى لا تكون فتنة) هذا الشطط فيقول: "أهداني مهندس موهوب حاصل على شهادة الدكتوراه في العمارة كتابا ألفه في أحكام التلاوة، وتلقيت في البريد طرداً ضم مجموعة من الكتب أصدرها مهندس آخر كان أحدها حول السنة الشريفة والثاني عن كيفية تطبيق الشريعة والثالث في حكم تارك الصلاة· وقبل عدة أسابيع بعث إلي ضابط برتبة عقيد بمؤلف له حول آداب الحج والعمرة، بينما سمعت أحد المستشارين القانونيين يقول إنه كرس وقته خلال السنة الأخيرة للبحث في علامات الساعة، وقال لي طبيب أعرفه أنه بات يعطي الأولوية في قراءاته للتحقق من صحة أحاديث المهدي المنتظر··اجتمعت تلك المصادفات في فترة زمنية قصيرة حتى كثفت صورة تبعث على الانقباض والخوف، وقلت: ماذا لو اتسعت الدائرة وشاع هذا النوع المبتدع من التدين، فانسحب المؤهلون والمتخصصون والخبراء من معاملهم ومواقعهم، ثم صرفوا جهدهم في تحصيل العلوم الشرعية بحجة التقرب إلى الله والتعبد له؟"

ومما يبشر بالخير أن بعض الدول العربية والإسلامية قد بدأت تخطو أولى خطواتها على طريق التحرر من سيطرة الرأي الواحد والفكر الواحد، وبدأت بإطلاق مبادرات للحوار والسماح بتعدد الآراء والأفكار، ولذا أصبح من اللازم أولاً تعزيز دور النقد البنّاء وإطلاق العنان للمتخصصين والمفكرين والمخترعين والعلماء والأدباء ليبدعوا في مجالاتهم وليثروا الفكر الإنساني، فالمجتمع الذي لا يفكّر ولا ينتج فكراً لا يمكن أن يصنع حضارة·

 

باحث إماراتي

yasser.hareb@gmail.com

�����
   

ألا يحق لنا أن نتساءل؟!:
عبدالله عيسى الموسوي
ثلاث رشفات:
عبدالخالق ملا جمعة
قراءة في محاضرة بابا الفاتيكان:
فهد راشد المطيري
يا حلاوة الرأي الآخر..؟!:
محمد بو شهري
أزمة الكهرباء والماء:
المهندس محمد فهد الظفيري
حركة تصحيحية متأخرة:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
لماذا...؟:
على محمود خاجه
العراق على مفترق طرق:
د. محمد حسين اليوسفي
عجبًا من المعجب بنفسه:
د. فاطمة البريكي
الإعلام وصناعة الكذب القاتل:
د. حصة لوتاه
المتجرئون على الإفتاء:
ياسر سعيد حارب
الموت بالجملة والمفرق:
الدكتور محمد سلمان العبودي
"إهي يت" على المادة 128:
يوسف الكندري
حزب الله والنظرة للذات:
فيصل عبدالله عبدالنبي