قبل عدة أيام أرسل لي أحد الزملاء مقالاً عبر البريد الإلكتروني يتحدث عن المنتدى الاقتصادي العالميWEF الذي يعقد دورته الخاصة بالشرق الأوسط في البحر الميت يوم 18 مايو 2007، وكان المقال يتحدث عن جلسات المنتدى باقتضاب، ويصفه بأنه أحد المنتديات العالمية المتميزة في طريقة عرض الموضوعات المطروحة للنقاش، حيث يحرص القائمون عليه على إيجاد تطبيقات عملية للمشاركين كأن يخرجوا إلى شاطئ البحر الميت، ويقوموا ببعض الأنشطة التي توصلهم إلى جوهر القضية المطروحة، ولكن من خلال التجربة وليس الحوار فقط·
كان عنوان الرسالة التي تلقيتها Why the WEF is different فوقفت عنده برهة، ثم عرجت على موضوعات الجلسات لأجد أن معظمها يدور حول الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط، وهي القضايا نفسها التي يجلد بها العالم العربي نفسه منذ خمسين عاماً! فقبل أن يقود جمال عبد الناصر ثورة يوليو كان العرب يتحدثون عما فعله بهم الاستعمار، ويندبون حظهم الرديء الذي جعلهم أمة تبعاً للأمم الأخرى· وبعد عبد الناصر وجد العرب إسطوانة جديدة أو كما نقول باللهجة العامية "إسطوانة مشروخة" يستمعون إليها ويستمتعون بما فيها كل يوم لتعزف على مسامعهم ألحان التخلف والرجعية والتبعية وغير ذلك من ألحان ناشزة·
عندما وجدت أن المنتدى يتحدث عن لبنان والعراق وفلسطين وتدهور التعليم والبطالة، عرفت أنه ليس متميزاً وإنما هو يختار إسطوانات مختلفة لإمتاع الشارع العربي والصحافة العربية على وجه الخصوص التي أصبحت الجلاد الذي يجلد ظهورنا كل يوم، ويبدو أن العالم العربي يحب الاستماع إلى هذه الإسطوانات تماماً مثلما يحب النمساويون الاستماع إلى موسيقا "موزارت"·
قبل عبد الناصر كان لدى العرب مصطفى صادق الرافعي وأحمد الزيّات وطه حسين، وبعد عبد الناصر أصبح لديهم أليسا ونانسي والمالكي وأبو مازن، فهؤلاء - مع كل احترام ومن دون تجريح - من يعرفهم العرب، وهم فقط من يسمع بهم العرب لأنهم أصبحوا اللاعبين الأساسيين في ملعب الفكر العربي إن صح التعبير، وهناك الكثير غيرهم على مقاعد الاحتياط ينتظرون إصابة أحدهم بمرض عضال ليحلوا مكانه·
قبل عبد الناصر كان العرب يتكلمون في السياسة، ولكنهم كانوا واعين بما يدور في أوطانهم، وكانوا يسعون إلى إيجاد حلول لها وإن كانت على صفحات الجرائد، وبعد عبد الناصر أصبح العرب يعشقون السياسة ولكن دون أن يعرفوا لماذا، وأظنهم في ذلك يطبقون كلمات الأغنية التي تقول: "بحبك بس مش عارف ليه"·
بعد أن انتهيت من قراءة البريد الإلكتروني كتبت لزميلي رداً مطولاً مفاده أن المنتدى الاقتصادي العالمي ليس متميزاً، وأن العرب يكفيهم جلداً للذات ووضع أيديهم على الجراح التي استشرت وتلوثت في جميع أوصال البدن العربي· وما تحتاجه المنطقة العربية هو الحديث عن كيفية معالجة هذه الجروح ولكن بطرق أخرى غير السياسة، تماماً كما يفعل القائمون على مبادرة كلينتون العالمية التي تسعى للتوفيق بين أصحاب الأفكار التنموية وبين المستثمرين الراغبين في تحقيق شيء مفيد للإنسانية·
عندما غرقت أمريكا في السياسة تراجع ميزانها التجاري أمام الصين، وبدأت شركاتها العملاقة مثل "ديملر كرايزلر وجنرال موتورز" وغيرها بالتخلي عن مكانتها العالمية للشرقيين الذين لا يعرفون غير العمل والإنتاجية· وفي الشرق عندما تخلت ماليزيا وسنغافورة واليابان عن السياسة أصبحت أسماؤها علامات اقتصادية عالمية يعرفها الصغار قبل الكبار·
لي عدة أصدقاء من الدول "الاسكندنافية" لم أسمعهم يتحدثون يوماً في السياسية، بل إن بعضهم لا يعرف اسم وزير خارجية الولايات المتحدة لأن صحفهم لا تلقي بالاً لأخبار هؤلاء، فصفحاتها الأولى تتزين بأخبار "نوكيا وميرسك" وغيرها من الشركات العملاقة التي تشكل عصب الاقتصاد لديهم ، وتتلألأ بمبادرات الاتحاد الأوروبي التنموية، وما يقوم به مجلس وزراء دول الشمال الذي يعد الدافع القوي لعجلة التنمية في شمال أوروبا·
الغارقون في السياسة هم مَن أجهزة التلفاز في بيوتهم لا تعرف غير قناتي "الجزيرة والعربية"، وهم من يقضون ساعات طوال يومياً في قراءة المقالات والتحليلات السياسية في معظم الصحف العربية ظناً منهم بأنها أهم شيء للإنسان العربي··· فماذا حقق هؤلاء؟
yasser.hareb@gmail.com |