كنت قبل أيام في حوار شيق مع الروائي العالمي "باولو كويلو" حيث دار حوارنا حول مفهوم الثقافة وكيف يمكن تنميتها في المجتمعات، والأهم من ذلك ما هو دور الثقافة؟ ولماذا تسعى بعض الحكومات إلى الارتقاء بها في مختلف المجالات؟!
يقول "كويلو" إن كل شيء في الحياة ثقافة، فطريقة كلامنا ثقافة وطريقة تحيتنا للآخرين ثقافة··· حتى تعاملاتنا التجارية ثقافة· فرجل الأعمال الغربي لا يستطيع أن يعقد صفقة تجارية في اليابان دون أن يتعرف على الثقافة اليابانية وآداب المائدة والطرق الصحيحة لإلقاء التحية وغيرها من ملامح الثقافة، وإلا فإن صفقته قد تتعرض للعرقلة أو الضياع في حال أساء من دون قصد في تعامله مع اليابانيين·
ويقول "كويلو" - الذي يعيش في باريس - إن متحف اللوفر بلوحاته وتماثيله ليس ثقافة في حد ذاته، بل هو أحد رموز الثقافة التي تستخدم في كثير من الأحيان للجذب السياحي ليس إلا، وعلى الرغم من افتخار الفرنسيين بلوحة "الموناليزا" وغيرها من أعمال إلا أن معظم هذه الأعمال ليست فرنسية الأصل والمنشأ وبالتالي فإنها لا تعكس الثقافة الفرنسية، وفي رأيه فإن المطبخ الفرنسي هو انعكاس حقيقي للثقافة الفرنسية فهو من إنتاج الفرنسيين ويحمل بين أطباقه نكهة خاصة بهم تختلف - بلا شك - عن غيرها من النكهات ولكن لا تتفوق عليها بالضرورة·
قلت لكويلو إن "إدوارد سعيد" يعرف الثقافة على أنها الإنتاج الفكري للشعوب، فالرسم ثقافة والكتابة ثقافة والتمثيل ثقافة حتى صناعة السيارات تعد ثقافة إذا كانت نتاج بيئة معينة تميزها عن غيرها من السيارات، فالسيارات اليابانية على سبيل المثال تتشابه معظمها في متانة الهيكل وتماسك المحرك، والسيارات الألمانية تشتهر بهندستها الميكانيكية التي يصعب على غيرها مجاراتها فيها، والسر في ذلك أن ألمانيا اشتهرت بتفوقها في الهندسة الميكانيكية حتى يُذكر أن طائرات هتلر حجبت الشمس عن سماء لندن في غضون دقائق معدودة وكادت أن تمحو المدينة من على خارطة العالم خلال الحرب العالمية الثانية، وما سر صمود ألمانيا خلال الحرب إلا تميزها في الهندسة الميكانيكية التي ساعدتها في إنتاج أسلحة وآليات حربية جعلتها تقف في وجه باقي دول التحالف، وعليه فإن الهندسة الميكانيكية تعد ثقافة تعطى ألمانيا والألمانيين صبغة تميزهم عن الآخرين·
لقد أدركت الشعوب الأوروبية أهمية الإنتاج الثقافي ودوره في بناء الأجيال القادمة، فعكفت من خلال الاتحاد الأوروبي على وضع سياسات للتنمية الثقافية "العملية" منذ عام 2000· حيث أطلقت في ذلك العام مبادرة توفر دعماً مالياً للمشاريع الثقافية الصغيرة والمتوسطة التي تشجع التمازج بين شعوب الاتحاد الأوروبي وتحافظ على موروثاتها التراثية والفكرية· وبعد أن حققت تلك المبادرة نجاحات كبيرة، أعيد إطلاقها عام 2007 لتمتد حتى عام 2013 ولكن بصورة مختلفة عن السنوات السبع الأولى، حيث أيقن الأوروبيون أن التغيرات الاقتصادية والسياسية في العالم أفرزت تغيرات اجتماعية عديدة، فعلى سبيل المثال أصبح الناس في أمريكا يدرسون أبناءهم اللغة الصينية والهندية لأنهم يؤمنون بأن الحقبة الجديدة هي حقبة الشرق، وأصبحت أخبار العراق والشرق الأوسط تتصدر الصحف الأوروبية التي كانت تهتم بالشأن المحلي والأوروبي فقط، وبدأت كل دولة أوروبية تتخذ موقفاً سياسياً مختلفا إزاء هذه الأزمات التي أتت بها القوى الإمبريالية على الشرق، فانشق المجتمع الأوروبي بين مؤيد ومعارض وأصبح الأوروبيون يتحدثون عن إيران وسوريا والعراق أكثر من حديثهم عن لندن وبرلين وبروكسل - اللهم إلا الدول الاسكندينافية التي يبدو أن بردها القارص لا يعطي مجالاً لهذه الأخبار الساخنة بالاشتعال - لذلك ارتأى المسؤولون في الاتحاد الأوروبي أن الثقافة هي العنصر الذي يمكنه أن يقرب وجهات النظر ويرأب الصدع بين الشعوب مهما اتسع وتعاظم، وقرروا أن يكون العام 2008 هو عام الحوار الثقافي، حيث تم تخصيص نصف مليار يورو لتمويل المشاريع التي تشجع الحوار الثقافي بين الشعوب الأوروبية، بشرط أن يشترك في المشروع الواحد ثلاثة أشخاص على الأقل من ثلاث دول أوروبية مختلفة، ويجب على هؤلاء الأشخاص أن يساهموا بنسبة 5% من رأسمال المشروع·
وحتى تكون المشاريع أكثر حيوية فإن القائمين على صناديق التمويل يعطون الأولوية لمن يستخدم التكنولوجيا ووسائل الاتصال والوسائل الإعلامية الحديثة في تقديم الثقافة الأوروبية لأفراد المجتمع، كما يحصل أصحاب المشاريع الرامية إلى تشجيع الناس على القراءة والاطلاع على أفضلية في التمويل والدعم اللوجيستي·
ولم تقف مؤسسات المجتمع المدني والمستثمرون مكتوفي الأيدي أمام هذا التحرك الحضاري، فشاركت بعض المؤسسات في هذا المشروع بتقديم قاعاتها وخدماتها للاستخدام المجاني لدعم بعض المنتديات الحوارية الجادة، وخصص بعض المستثمرين الأوروبيين أوقافاً مالية لدعم مبادرات أخرى لتشجيع الحوار بين الأجيال الناشئة من خلال الزيارات البينية بين طلبة الجامعات وطلبة المدارس وغير ذلك من مشاريع·
في نهاية حواري مع "باولو كويلو" سألته عن أهمية الثقافة للأفراد وللمجتمع فقال لي: "عندما يتذوق الإنسان الفن فإنه يتذوق جماليات الحياة، وعندما يرى جماليات الحياة فإنه يرى روح العالم، وبالتالي يصبح فرد المجتمع أكثر تحملاً لتبعات الحياة وضغوطها وأقل نزعاً إلى العنف لأنه من يرى روح العالم لا يمكنه أن يغتالها"·
yassser.hareb@gmail.com |