رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 20 سبتمبر 2006
العدد 1743

عجبًا من المعجب بنفسه
د. فاطمة البريكي
sunono@yahoo.com

حب الذات أمر طبيعي فُطِر عليه الإنسان، ومن غير الطبيعي ألا يحب الإنسان نفسه، بل إن ذلك يخرجه من دائرة الأسوياء، ويدخله في دائرة المرضى الذين يحتاجون للعلاج النفسي· ولكن يجب على الإنسان الاعتدال في درجة حبه لنفسه، وأن يحرص على ألا يتجاوز في ذلك حدود المعقول، وألا يبالغ في إعجابه بنفسه، كما يجب ألا يفرط في ثقته بقدراته بحيث يعطي نفسه حجمًا أكبر من حجمها الحقيقي، ويقدرها بما هو أكبر من قدرها في الواقع؛ فإذا كان عدم حب الإنسان لذاته يستدعي العلاج النفسي، فإن المبالغة في حب الذات والإعجاب بها يمثل وجهًا آخر من أوجه الخلل النفسي الذي يحتاج إلى سرعة علاجه أيضًا وعدم التهاون في ذلك·

ويبدو لي أن الناس ينقسمون في هذا الأمر قسمين يمكن القول إنهما نقيضان، القسم الأول هو تلك الفئة من الناس الذين يمتلكون قدرات ذهنية وفكرية ونفسية عالية، ولكنهم يبالغون في التقليل منها والتهوين من شأنها، إما تواضعًا -وهذا هو الغالب - وإما جهلاً بقيمة ما يملكون وأهميته، فنجدهم نتيجة لذلك  مغمورين، غير حاضرين في المواقع التي تليق بهم، وغير بارزين في المواضع المناسبة لقدراتهم وكفاءاتهم، بل إنهم كثيرًا ما يتخلون عنها بطيب نفس لغيرهم ممن لا يمتلكون ما يمتلكونه هم من قدرات وإمكانات تؤهلهم لتبوء أفضل المواقع·

أما القسم الثاني فهو تلك الفئة من الناس الذين لا يمتلكون من القدرات والمؤهلات شيئًا مميزًا أو مهمًا، ولكنهم يبالغون في إظهار ما يمتلكونه منها، بل إنهم حذاق في التهويل من أهمية أي شيء يرتبط بهم بسبب ولو كان واهيًا، كما يبرعون في إضفاء قيمة وهمية على كل ما يقومون به، ويلبسونه لباس التميز والاختلاف والتجديد والتحديث والابتكار، مستخدمين في ذلك كل ما أتقنوا تعلمه من أساليب الضحك على الذقون·

ويبدو لي أيضًا أن أفراد هذا القسم ينقسمون بدورهم إلى فئتين مختلفتين: أفراد الفئة الأولى هم أولئك الذين يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم لا يمتلكون شيئًا يميزهم عن الآخرين، وأن واحدهم مثل أي شخص آخر في المجتمع لا يتفوق بأي ميزة فكرية أو ذهنية عليهم، ولكنهم يحسنون تلميع صورتهم أمام الآخرين، ويعرفون كيف يظهرون أنفسهم بمظهر الإنسان الفريد المتميز الذي لا يوجد له نظير ربما في العالم كله، فينخدع بمثل هذه المظاهر كثيرون·

أما أفراد الفئة الثانية فهم أولئك الذين يؤمنون إيمانًا حقيقيًا بأنهم مختلفون ومتميزون عن بقية أفراد المجتمع، ولدى كل واحد منهم قناعة ذاتية حقيقية بأنه لا يشبه أحدًا ممن حوله من أفراد المجتمع كما لا يشبهه أحد منهم، وأنه صاحب رسالة وفكر يجب إيصاله إلى القاصي والداني، وإلى أفراد المجتمع المعاصرين ومن سيأتي بعدهم من الأجيال القادمة، وعليه أن يحمل عبء ذلك، وأن يتحمل الصعاب التي يصورها له خياله في سبيل إيصال ما لديه من آراء وأفكار وخبرات إليهم للنهوض بهم· أي أنه لا يمثل دورًا يعرف في قرارة نفسه أنه مجرد دور في مسرحية الحياة، ولكنه يؤدي دوره في الحياة بقناعة تامة بأنه مختلف عن الآخرين، ويستحق أن يُعامل بشكل مختلف، وأن بيده وحده تطوير المجتمع ونقله من الظلمات إلى النور·

وفي رأيي أن الفئة الثانية من القسم الثاني أشد خطرًا على المجتمع من الفئة الأولى من القسم نفسه، يليها في الخطر الفئة الأولى من القسم الثاني، ويليهم القسم الأول الذي تخاذل أفراده عن دورهم الحقيقي في المجتمع مهما كانت الحجة التي يحتجون بها، ومهما كان السبب الذي يضعونه عذرًا لانسحابهم من دورهم الحقيقي في النهوض بمجتمعاتهم·

وإذا توقفنا عند القسم الثاني بفئتيه، نجد أن الصفة الغالبة على أفراده هو العجب بالنفس؛ فهؤلاء المنتمون إلى هذا القسم، سواء كانوا من الفئة الأولى التي تعرف قيمتها الحقيقية ولكنها تدعي، أو الفئة الثانية الواهمة والمخدوعة بحقيقة قدراتها، لا يترددون في إظهار أنفسهم وكأنهم المنقذون المنزّلون من رب العالمين، ويبالغون في بيان أهمية أي أمر يقدمون عليه، بل يكيلون الثناء دائمًا لأنفسهم على أفكارهم التي يستحيل أن يتفتق ذهن أحد غيرهم بمثلها، ويصل بهم الحال كثيرًا إلى استجداء الثناء وتوسل الإشادة بعبقرياتهم من الآخرين· وهذا يذكرنا بشاعرنا العباسي القديم، البحتري، الذي تذكر المصادر الأدبية والنقدية التراثية أنه كان من أبغض الناس إنشادًا، لأنه كان يتشادق ويتزاور في مشيته مرة جانباً، ومرة القهقرى، ويهز رأسه مرة، ومنكبيه أخرى، ويشير بكمه، لشدة إعجابه بما يقول، وكان يقف عند كل بيت، ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين، فيقول: ما لكم لا تقولون أحسنت؟ هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله·

هذا هو حال شاعرنا القديم، وقد كان بحق شاعرًا موهوبًا وأديبًا مبدعًا فذًّا، ولكنه أيضًا حال كثير من أفراد المجتمع، ومن المنتمين إلى الطبقة المثقفة والمحسوبين على النخبة، الذين لا يمتلكون شيئًا حقيقيًا، ومع هذا يتشدقون بما لا يعرفون، ويطالبون الآخرين بالاعتراف بقدراتهم الوهمية، والإعجاب بما هو غير موجود أساسًا·

جميل أن يعرف الإنسان قدراته، وأن يعرف حجم إمكاناته الحقيقي، وأن يعبر عن ذلك في عبارات تمثلها حقًا، ولكن أن يعطي نفسه حجمًا أكبر من حجمه، وأن يجعل من نفسه مثالا فريدًا في عصره، وأن أحدًا لا يمكن أن يكون مثله أو أن يشبهه فهذا غير مقبول، ولا يمكن التسليم به حتى إن أصبحت الغالبية العظمى من أفراد المجتمع ينتمون لهذا الصنف من البشر، المعجبين بأنفسهم· وجميل أيضًا أن يصنع الإنسان شيئًا يقرر الآخرون أنه جميل ويستحق الإعجاب به دون طلب أو استجداء من أحد·

ولعله من المناسب البدء في محاولة تنقية مجتمعاتنا من أصحاب مثل هذه النفسيات غير السوية، التي تبالغ في الإعجاب بنفسها بما يتجاوز حدود المعقول، لأن لهذه الصفة عواقب من الممكن أن تؤثر سلبًا على المجتمع من جوانب مختلفة، قد يكون أوضحها الجانب الإنتاجي لتداخله مع معظم الجوانب الأخرى المكونة لأي مجتمع؛ فعندما يُعجب شخص ما بعمله، وبالمستوى الإنتاجي لما يقع ضمن نطاق صلاحياته، ويبالغ في الإعجاب به، فإنه لن يسعى لرفع المستوى الإنتاجي أو لتحسينه، ولن يحاول البحث عما هو أفضل، لأنه يعتقد أنه قد قام بما يجب عليه القيام به، وربما يظن أنه قد قام بما يعجز غيره عن القيام به لو كان في مكانه، وهذا لا يتناسب مع شرارة الطموح التي يجب أن تشتعل في نفوس جميع أفراد المجتمع، التي نحرص على غرسها في قلوب النشء وعقولهم كي لا تعرف أحلامهم سقفًا، وكي لا يصبحوا كمن كان قبلهم، مفرطين في إعجابهم بأنفسهم·

جامعة الإمارات

sunono@yahoo.com

�����
   
�������   ������ �����
الأشقاء الأشقياء
القارئة الصغيرة
الامتلاء من أجل العطاء
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا
التفكير من أجل التغيير
تطوير العقول أو تغييرها
تطوير العقول أو تغييرها
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
الكبيرُ كبيرٌ دائمًا
إنفلونزا الطيور تعود من جديد
معنى التجربة
السلطة الذكورية في حضرة الموت
الطيور المهاجرة
"من غشنا فليس منّا"
كأنني لم أعرفه من قبل
ثلاثية الحضور والصوت والكتابة
المطبّلون في الأتراح
بين الفعل.. وردة الفعل
التواصل في رمضان
  Next Page

ألا يحق لنا أن نتساءل؟!:
عبدالله عيسى الموسوي
ثلاث رشفات:
عبدالخالق ملا جمعة
قراءة في محاضرة بابا الفاتيكان:
فهد راشد المطيري
يا حلاوة الرأي الآخر..؟!:
محمد بو شهري
أزمة الكهرباء والماء:
المهندس محمد فهد الظفيري
حركة تصحيحية متأخرة:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
لماذا...؟:
على محمود خاجه
العراق على مفترق طرق:
د. محمد حسين اليوسفي
عجبًا من المعجب بنفسه:
د. فاطمة البريكي
الإعلام وصناعة الكذب القاتل:
د. حصة لوتاه
المتجرئون على الإفتاء:
ياسر سعيد حارب
الموت بالجملة والمفرق:
الدكتور محمد سلمان العبودي
"إهي يت" على المادة 128:
يوسف الكندري
حزب الله والنظرة للذات:
فيصل عبدالله عبدالنبي