من خلال قراءتي لمحاضرة بابا الفاتيكان التي حملت عنوان "الإيمان، و العقل، و الجامعة"، أستطيع أن ألخص الفكرة الرئيسة لهذه المحاضرة على النحو التالي: إذا استمر العقل العلمي الحديث في إبعاد الدين عن دائرة العقل و التفكير المنطقي السليم، فإن الأديان عندها ستكون عرضة للتناحر فيما بينها· للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الفكرة دعوة إلى حوار بناء بين الأديان على أساس المنطق، لكن من خلال النظر إلى عنوان المحاضرة ذاتها، و إلى الحجج التي استند عليها البابا خلال محاضرتة، يمكن القول إن هناك هدفان على الأقل: الأول معلن، و الآخر ضمني· الهدف المعلن من هذه المحاضرة يتمثل في إعادة الاعتبار للديانة المسيحية كعلم لاهوتي جدير بالدراسة و أن يقف على قدم المساواة مع العلوم الطبيعية الحديثة· كي يصل إلى هذا الهدف، حاول بابا الفاتيكان إعادة تفسير معنى "الكلمة" كما جاءت في أول جملة في الكتاب المقدس"في البدء كانت الكلمة"· فإلى جانب التفسير التقليدي الذي يشير إلى "كلمة الله الخلاقة"، أصرّ البابا على ربط معنى "الكلمة" بالمصطلح الإغريقي "لوغوس"، أي التفكير المنطقي الذي يتصف بالتنظيم"· إعادة التفسير هذه تتيح للبابا الربط بين الثقافة الاغريقية و الثقافة المسيحية· لكن ينبغي أن نلاحظ أن البابا كان انتقائيا في هذا الربط، فهو يصر على توافر أسس الفلسفة العقلية الاغريقية في الفكر المسيحي، لكنه يغض النظر عن غياب النموذج الديمقراطي الاغريقي في النظام المسيحي التوتاليتاري·
إنطلاقا من هذا الربط "الجزئي" بين الثقافتين الاغريقية و المسيحية، يؤكد البابا على أنه ليس من المستغرب أن الديانة المسيحية، على الرغم من ولادتها خارج المحيط الأوربي، وجدت جوهرها الحقيقي في أوربا، فهذه القارة، حسب رأيه، تقوم على مكونات ثلاثة: الثقافة الإغريقية، و الثقافة الرومانية، و الديانة المسيحية· و هذه المكونات الثلاثة، حسب الرأي البابوي، غير متعارضة فيما بينها بل مكملة لبعضها البعض· هنا نتلمس الهدف غير المباشر لهذه المحاضرة، و هو التأكيد على هوية أوربا المسيحية· إن صحت هذه القراءة، فإن السؤال التالي يصبح منطقيا: هل هناك علاقة بين الهدف المعلن و الهدف غير المعلن؟ كي نعثر على إجابة مقنعة عن هذا السؤال علينا أولا أن ننظر إلى تناول كل من الإسلام و المسيحية للعلاقة بين الإيمان و العقل· حسب رأي البابا، بينما يصر الإسلام على تغليب الإيمان على العقل، نجد أن المسيحية تستمد قوتها من العقل نفسه·
هنا تحديدا جاء هذا الاستشهاد بما قاله القيصر البيزنطي مانويل الثاني لمثقف مسلم من بلاد فارس، و هو الاستشهاد الذي أثار ردة فعل متوقعة في عالمنا الإسلامي· لن أتوقف لحظة عند مضمون تلك الكلمات التي أثارت كل هذا الاحتجاج، فآداب أوربا قاطبة طوال قرون عديدة مليئة بعبارات أكثر فجاجة، و يكفي أن نلقي نظرة سريعة على أشعار فرانسيس كيبيدو في الأدب الأسباني كي نتأكد من ذلك، كما أن عملية نفي الآخر و التقليل من شأنه هي عملية متبادلة بين الأديان على مر العصور، لكن ما يعنيني هنا هو دلالة هذا الاستشهاد البابوي· الاستشهاد جاء ليدلل على أن الإسلام انتشر بحد السيف دون الإقناع بالعقل، من هنا فإن الإسلام، حسب رأي البابا، يضع الإيمان في درجة أرفع من منزلة العقل· قد يكون هذا الرأي صحيحا، خصوصا إذا وضعنا في الإعتبار أن تيار الغزالي المتمثل في "تهافت الفلاسفة" هو التيار الذي ساد في تراثنا الإسلامي إلى يومنا الحاضر، و يكفي أن ننظر كيف يفسر شيخ كإبن عثيمين "لا إكراه في الدين" كي ندلل على سيادة هذا التيار، لكن هل يعني ذلك أن المسيحية لا تشارك الإسلام تغليب الإيمان على العقل؟ من المستهجن حقا خلو محاضرة البابا من أية إشارة إلى الحروب الصليبية أو لمحاكم التفتيش أو لملاحقة العلماء و حرقهم هم و مؤلفاتهم، فهذه كلها حقائق تاريخية تؤكد على أن الفكر المسيحي أيضا يضع الإيمان بمنزلة أرفع من منزلة العقل!
إن إصرار البابا على تعزيز مكانة علم اللاهوت و مشروعية وجود هذا العلم كمادة للتدريس في الجامعات (الهدف المعلن) هو بمثابة تحذير من فكرة إقصاء الفكر المسيحي و وضعه في سلة واحدة مع بقية الأديان بحجة أن هذه الأديان لا تقوم على أساس عقلي، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر في هوية أوربا المسيحية (الهدف غير المعلن)· يخطيء من يظن أن إشكالية هذه المحاضرة البابوية تقتصر فقط على تفضيل دين على دين، بل إن الإشكالية الحقيقية هي في هذا التعدي الصارخ على "العقل" و التحدث باسمه و طلب مصاهرته دون وجه حق! أخيرا، من يقرأ محاضرة البابا لا بد و أن يلتمس هذه المفارقة المؤلمة: هناك في الغرب، يكافح الدين كي يجد له مكانا مقبولا لدى حضرة العلم الحديث، أما هنا في الشرق، فإن العلم الحديث سيكون مسرورا لو وجد له مكانا عند قدمي الدين! |