في أذهان الكثير من سياسيي حكومات الدول الغربية وإسرائيل فإن جمهورية العراق، كمثل جمهورية لبنان والدول العربية الأخرى، مكونة من طوائف وإثنيات لديها رغبة في تقسيمه إلى دويلات طائفية وعرقية خاصة بها، دويلة كردية في شمال العراق وأخرى شيعية في جنوبه وثمة ثالثة سنية في الوسط هي خطوط عريضة للتقسيم، بدأ التطبيق الفعلي المعلن لمشروع تقسيم أو تفتيت العراق عقب حرب عاصفة الصحراء التي انتهت بتدمير شبه كامل للقوة العسكرية العراقية، حينها فرضت الدول المنتصرة عسكرياً في الحرب، وبشكل رئيسي بريطانيا وأمريكا، شروطاً ساديةً على النظام الحاكم في العراق وحظراً جوياً على شمال العراق بدعوى حماية الأكراد وعلى جنوبه بزعم حماية الشيعة فيه، في ذلك ظن الكثير أن وسط العراق ليس بحاجة إلى حماية من الخارج إذ أن أهل الوسط في غالبيتهم من أهل الحكم وأصحابه أو المقربين إليه، سياسياً وعملياً وضعت الحماية الجوية الأنجلو-أمريكية تلك العراق تحت شبح التقسيم الفعلي، استغل سياسيو الأكراد الانفصاليون الحماية الجوية لإقليم كردستان وقاموا بمجموعة من الخطوات تصب في مجملها في إنشاء نواة كيان كردي مستقل عن دولة العراق، في الجنوب نشأت كيانات حزبية سرية جدُّ مناوئة للحكم تنتهز أية فرصة للانقضاض على الحكم في بغداد ولا تخفي نيتها في الانفصال عن بغداد إذا ما كان لا بد من الانفصال، على حسب رأيها، وتسابقت الأحزاب العراقية المعارضة للحكم على اختلاف مشاربها ومآربها إلى الاستعانة بالقوى الإقليمية والدولية مادياً ومعنوياً وعسكرياً وسياسياً·
أتى شهر مارس آذار 2003 وكان وضع العراق المادي والعسكري والمعنوي الداخلي من الحضيض بمكان بحيث سهّل ذلك على قوات الغزو الأنجلو-أمريكية في معظمها من اجتياح العراق بأكمله في فترة قياسية قصيرة، بالتوازي مع الزحف العسكري على العراق انطلقت شرارة البدء في تقسيم العراق على أسس وخطوط رئيسية طائفية وعرقية ومذهبية مستغلين فرصة انهيار أركان النظام أمام طوابير الدروع الزاحفة، بسرعة بعد توليه إدارة العراق قام السيد "بول بريمر" بحل الجيش العراقي العرمرم، الذي كان قوامه أكثر من مليون شخص تحت السلاح، وأنهى الهيكل التنظيمي الإداري للدولة العراقية بجرة من قلمه، سار وراء السيد بول بريمر العشرات من قادة الأحزاب العراقية والحكام الجدد؛ في معظمهم قادمون من خارج العراق مع القوات الأنجلو-أمريكية الغازية، في تلك التصفية شبه الكاملة لمؤسسات الدولة العراقية كان السيد بول بريمر "معارضاً أكثر حماساً من المعارضة الشرسة نفسها" من حيث السرعة والدقة والشمولية في تطبيق القرارات؛ وصل به الأمر إلى أن يشرف بنفسه على بلدوزر أثناء تدمير مرقد وتمثال السيد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث الذي حكم العراق لعقود من السنين·
بسبب طفرة الحرية القادمة مع الاحتلال الأنجلو_أمريكية للعراق ظهرت الأحزاب العراقية العقائدية والعرقية بشكل مدو على سطح الأحداث، كل فئة عرقية أو طائفية أو مذهبية لديها من وسائل الإعلام الحديثة ما يكفي لحشو عقول أتباعها بمادة إعلامية تجعلهم يذهبون إلى أسرّة نومهم موقنين أن عهد الخلاص والحرية بقيادة تلك الأحزاب بات يملأ كل بيت، انتشرت الصحف والمجلات ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني المحلي والفضائي الدولي، الحزبية بمجملها، بشكل بركاني متفجر؛ وأخذت شبكة الإنترنت الدولية نصيبها من المشتركين الذين يعملون بأجر أو بشكل تطوعي التزاماً بمصلحة أحزابهم·
في البداية شكل الحاكم المدني بول بريمر "مجلس الحكم" من قيادات الأطياف السياسية كافة في محاولة لإرضاء أكبر عدد ممكن من المعارضين السابقين والطامحين إلى قيادة دفة قارب حكم العراق، بشكل رئيسي وملحوظ ظهر الحزبان الكرديان الرئيسيان في الشمال والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة الشيعيان في الجنوب والحزب الإسلامي السني في الوسط؛ نسخة طبق الأصل تقريباً عن الحال الأفغانية بعد سقوط نظام السيد "نجيب الله" الشيوعي في كابول أوائل تسعينيات القرن الماضي، بهذه الهيكلية الإدارية لمجلس الحكم بان التقسيم المبدئي للعراق بشكل رئيسي إلى ثلاث مناطق ديموغرافية؛ مكوناً من دويلة كردية في الشمال وعربية شيعية في الجنوب وما بينهما دويلة عربية سنية في الوسط، كان التنافس على رئاسة العراق تحت الاحتلال على أشده مما جعل السيد بول بريمر يقترح تولي الرئاسة حسب تسلسل الأسماء حسب الحروف الأبجدية العربية، ولمدة شهر لكل منهم، عجز مجلس الحكم عن توطيد أركان الحكم الوطني الديموقراطي وتم التأسيس الدستوري لما يعرف بالمحاصصة الطائفية والعشائرية والمذهبية والعرقية؛ كشكول من الشخصيات المتحالفة والمتضاربة مع بعضها في آن معاً، انبثق عن مجلس الحكم "حكومة انتقالية" أكثر عجزاً من مجلس الحكم في معالجة الأمور الملحة بشدة، بالتوازي مع فشل الحكومة الانتقالية المنشأة كانت الأحزاب الطائفية والعرقية تقوى ويزداد نشاطها، جاءت "حكومة مؤقتة" فاشلة أخرى وفي زمنها توطدت أسس الطائفية في العراق حيث انتشرت المليشيات الحزبية المسلحة وفرق الموت التابعة لكل منها، بعد ما يزيد عن ثلاثة سنين من الاحتلال تتولى الأمور الآن "حكومة دائمة" حيث المستقبل أمامها لا يقل حلكة وظلاماً عن ما واجهتاه الحكومتان السابقتان ومجلس الحكم·
يطلق اسم العراق الآن على كتلة ديموغرافية تمزقها الطائفية والعرقية والفئوية والمليشيات تحت خيمة دستور انفصالي تقسيمي، أطلق عليه مَجازاً لقب الدستور الاتحادي، في العراق اليوم يسأل براعم رياض الأطفال وتلامذة المدارس الصغار معلميهم وأولياء أمورهم عن أمكنتهم في التقسيم الطائفي والعرقي في العراق الجديد، يسألون أيهم في الحكومة منهم وأيهم في نفس الحكومة مع الطوائف الأخرى! هنالك الكردي في العراق يفخر أن رئيس الجمهورية كردي والشيعي العراقي يفخر أن رئيس الوزراء شيعي وعلى السني أن يفخر أن رئيس مجلس النواب سني، هنالك حقائب ترضية وزارية للآشوريين والصابئة واليزيديين والتركمان والنساء، الأمر دواليك بالنسبة لبقية نواب الرئيس ورئيس الوزراء والبرلمان وبقية الوزراء والمناصب في السلم الوظيفي والإداري في الدولة، لبنان طائفي آخر ولد في العراق برعاية قابلة قانونية أنجلو-أمريكية عسكرية سياسية، ما تصفه الإدارة الأمريكية على أنه مشاركة فعلية لكافة طوائف أبناء الشعب العراقي في الحكم هو في الواقع ولوج في أتون تصنيف طائفي يضع العراقيين جميعاً في نفق مظلم، الوقائع على الأرض تختلف تماماً عن تصوير الساسة القادرين على رسم الصورة وكأنها لوحة سريالية مزينة بالورود، لأول مرة في تاريخ العراق يتم تأسيس أضخم وزارة فريدة من نوعها ألا وهي وزارة المهجّرين، أسوة بوزارة حقوق الإنسان! المهجّرون من بيوتهم ومناطق سكناهم بشكل قسري وعلى الهوية الطائفية، هذه الوزارة الجديدة، والتي تحوي في مستودعاتها ومخازنها الخيام المقدمة من أمراء الحرب الجدد، يتوقع أن يشمل مجال عملها أكثر من 80% من شعب وأرض العراق ومن الذين لا يتمكنون من الهرب إلى خارج العراق لسبب أو لآخر، إذا ما كان الذي يحدث في العراق حالياً هو تطبيق للديموقراطية ونشر مبادئ حقوق الإنسان والحفاظ على وحدة العراق! لماذا يدفع العراق ثمن ذلك من حقوق أبنائه ووحدته الديموغرافية، على رواد الديموقراطية والفيدرالية (الاتحادية) في العراق تحمل مسؤوليات وأعباء المشاكل والكوارث وتبعات تقسيم أو تفتيت العراق، القادمة جميعاً مع الديموقراطية الأنجلو-أمريكية المحمولة جواً؟!·
* جامعة الإمارات |