إذا ما وقع حادث يتوافر فيه الحد الأدنى من الاعتبار الإعلامي سرعان ما تتجمع حوله أعداد لا حصر لها من وسائل الإعلام المعروفة محلياً وإقليمياً ودولياً لتروى الحقيقة بأشكال متعددة كلٌّ حسب رؤيته لذلك الحادث، النسبة الأعلى من الأخبار تتدفق على المشاهدين الآن من الفضائيات التي غزت كل ركن من أركان حياة البشر على اختلاف مستوياتهم المادية والاجتماعية والتعليمية، هنالك عدة عوامل تؤثر في الصياغة النهائية للخبر منها الخلفية الثقافية والاجتماعية والمهنية لناقل الخبر إلى جانب الأهداف السياسية والإعلامية لمؤسسته تفوق في التأثير الأمور الأخرى التي تحاول كشف وتصوير حقيقة ما يجري من أجل صياغة رأي عام "باتجاه وتوجّه ما"، عادة ما يصاحب بث الخبر آراء وأفكار المحللين والمعلقين التي تساهم في تشكيل الصورة النهائية للواقعة والتي تظل بعيدة عن الصورة الأصلية للحقيقة، لكل وسيلة إعلامية إخبارية زاوية محصورة، وإن كبُرت، تنطلق منها لكي تساهم في نقل صورة الحقيقة كما تراها إلى مشاهديها· وبسبب كثرة الزوايا التي تستطيع الكاميرا الإخبارية تسليط الأضواء من خلالها على الحادث باتت صورة الحقيقة لدى المتابعين لأخبار العالم مزيجاً مركباً وبنسب متفاوتة، كل نسبة تعتمد على قوة تأثير تلك الوسيلة الإعلامية وقدرتها على التخلل والنفاذ إلى ذهنية المشاهد وعلى اللغة المستعملة في نقل الصورة، في واقع الأمر باتت الحقيقة رهينة بيد وسائل الإعلام خاصة الأكثر انتشاراً وقوةً وقدرةً في التعامل مع الذهنية والمنهجية البشرية وبما تقوم به في توظيف واستئجار خبرات الآخرين والاستفادة من ذكائهم من أجل دعم مواقفها مواقف في أغلب الأمر مبنية على مآرب سياسية وثقافية وعسكرية بما يمكن أن يتحول ذلك الإعلام وبشكل تلقائي إلى ما يعرف بالإعلام المضاد أو البروباغاندا، ذلك ما آلت إليه معظم وسائل الإعلام الإخباري التي تبث الأخبار على مدار الساعة في سباق محموم نحو محاولة قولبة رأي عام مؤيد لسياسة الدولة الأم راعية الوسيلة الإعلامية· وكثيراً ما تتعاون عدة وسائل إعلامية، وبمختلف اللغات، من أجل المساهمة في جعل أكبر عدد ممكن من المتابعين يثقون بشكل مطلق وروتيني أعمى بالأخبار الأصلية والمترجمة عن المصدر نفسه، والحال هذه بات على المشاهد الواعي أو المتنوّر أو المتوخّي لمعرفة أكثر عن الحقيقة متابعة أعداد لا حصر لها من القنوات الإخبارية المتنوعة لزيادة تنوّره!· تظل النتيجة النهائية الواقعية لمثل هذا الموقف الذي لا يُحسد المشاهد المتابع عليه هو أن الحقيقة أصبحت تكتنفها الضبابية واهتزاز الصورة والذي يؤدي في النهاية إلى إدخال المشاهد في صراع جدلي مع ذاته ومن حوله كمن يدخل إلى دوامة فكرية، ما هو متفقٌ عليه بأنه صورة ناصعة بالألوان الزاهية للحقيقة أصبحت الزيف والخداع بالألوان عينها· تُقتل الحقيقة على يد من يزعمون أنهم رواد في جلب الصورة الحقيقية للمشاهد الضحية، لا ترفق وسائل الإعلام الإخبارية بحال المشاهد الذي بسببها يعاني عدم وضوح الصورة الحقيقية لما يجري، بعلم منه أو بغير علم، لكن المشاهد نفسه يساهم في تغييب الحقيقة حين يتوخى متابعة وسيلة إعلامية تقدم له صورة عن الحادث تتماشى مع أهوائه وطموحاته وخلفيته الفكرية والسياسية·
هنالك أمثلة كثيرة نختار منها في هذا المجال حالة تصوير حوادث المشهد الفلسطيني في الإعلام الإخباري وخاصة الفضائي منه، يزاحمه حالياً المشهد أو الشأن العراقي الحديث والذي يمكن اعتباره مثل صورة صارخة فاضحة أخرى لمتناقضات الإعلام الإخباري الحديث، هنالك حوادث وقضايا أخرى محلية وعالمية لا يقل فحش نوايا وأعمال وسائل الإعلام في تقديم صورتها عن الحقيقة عن هاتين القضيتين الرئيسيتين في هذا النص، للرواية الإخبارية في الشأن الفلسطيني ثلاثة وجوه رئيسية؛ الوجه المصادق والآخر المعادي وثمة ثالث يوصف نفسه بالمحايد أو المستقل اتجاه طرفي النزاع، يتفرع عن كل ما سبق أعداد لا حصر لها من وجهات النظر تحاول في النهاية جعل الصورة أكثر ثباتاً ورسوخاً في عقلية المشاهد تساعده على اتخاذ موقف معين· برمّة الأمر أصبحت الصورة الحقيقية أقرب إلى الاعتقاد الأعمى بها منها إلى حقيقة ما يجري· في ذلك تطفو الحاجة إلى إحداث دعم وتقوية لعمل الوسيلة الإعلامية الإخبارية عن طريق زيادة ساعات البث والسرعة في إيصال الخبر بالإضافة إلى تخفيض تكاليف استقبال الخبر قدر الاستطاعة وتقديمه باللغة الوطنية التي يفهمها المشاهد، جميع الأخبار الآن عن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين باتت تصوّر الأمور والأحداث على أساس أنها "مقايضة إسرائيل بأرض لها مقابل سلام مع العرب" حيث ظهر ذلك التعبير رسمياً إلى العلن في مؤتمر مدريد للسلام عام .1991 في هذا التصوير للأمور والأحداث انقلبت الحقيقة رأساً على عقبٍ واعتبرت ملكية فلسطين في وسائل الإعلام الإخباري من أهلها الشرعيين إلى المحتلّين الإسرائيليين، صار مصطلح الأرض مقابل السلام يعني أن أرض فلسطين كلها إسرائيلية وما على العرب إلا التسابق في انتهاج السلام بما يرضي الكيان الإسرائيلي، تاريخياً فقد عانت الصورة الحقيقية للقضية الفلسطينية التشويش والتزييف والتلفيق من قبل الإعلام الصهيو-أنجلو-أمريكي المسيطر على الساحة الإعلامية الإخبارية الدولية منذ ولادة القضية الفلسطينية قبل ما يربو على قرن من الزمن· الصورة الحقيقية هي أن إسرائيل كيان أقيم على أنقاض الوطن والشعب الفلسطينيين في سلسلة متصلة من الخطوات في معظمها ناتج عن تداخلات وخطط استعمارية لا تزال قوية ومستمرة منتهزة ظروف العالم العربي الصعبة على جميع الأصعدة·
الصورة السابقة تتكرر وبوضوح أكثر في تصوير حوادث المشهد العراقي، حيث تحولت حقيقة قوات المحتلين والغزاة الأنجلو-أمريكان إلى صورة قوات محررين ومنقذين وتحالف أو ائتلاف دولي لتحرير العراق ولمساعدة الشعب العراقي في بناء العراق الجديد، في ذلك تغيب الصورة الكلية الحقيقية من الهدف الأساسي من احتلال العراق ألا وهو السيطرة الكاملة على بترول المنطقة وخلخلة التوازن الديموغرافي في الشرق الأوسط الكبير بالشكل الذي تراه القوى الدولية الرئيسية مناسباً لخدمة أهدافها السياسية ومصالح شركاتها الرأسمالية، تُغيّب الحقيقة عن قصد وسبق إصرار من قبل الإعلام الإخباري العالمي ويجري ذلك بالتوازي مع الأعمال العسكرية الجارية في ميادين المواجهة، يزيد الأمر سوءاً حين يقوم الإعلام الإخباري المحلي، الأقل شأناً إعلامياً، بالترجمة الحرفية عن وسائل الإعلام المرافق للغزو والاحتلال مع بعض التصرف الممل أحياناً من أجل نيل ثقة مشاهديها المحليين·
خلاصة القول إنه في التنافس على معرفة الحقيقة أصبحت الحقيقة هي الضحية الأولى والرئيسية والأخيرة، في ذلك يُغيَّب الضمير الإنساني والمهني عند الإعلاميين، الذين لا يكترثون بالحس والذهنية والطبيعة الإنسانية والقضايا ذات الطبيعة الحساسة لمتابعي وسائل الإعلام الإخباري، في سعي إعلامهم المحموم نحو تشكيل رأي عام موجّه أو موافق على تلك الصورة النمطية المطروحة، على أن المرء لا يجب أن يفرط في التشاؤم إذا ما أسلمنا أننا، ولو نظرياً، نكون أقرب إلى الحقيقة حين ننظر إلى الحوادث من زوايا ووجهات نظر مختلفة وليس من زاوية واحدة حكومية كما كان يحدث في الماضي القريب البعيد ولا يزال يحدث في الكثير من أركان العالم المعاصر·
* جامعة الإمارات |