عقب إخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1970 بدأت القيادة الفلسطينية المتمثلة بشخص الرئيس الراحل ياسر عرفات بالتفكير الجدي بإعطاء فرصة للخيار السلمي لحل القضية الفلسطينية· حينها كان معظم الفلسطينيين وجل العرب لا يؤيدون مثل هذا المنحى الاستسلامي، على حد تعبيرهم في ذلك الوقت· في هذا الاتجاه حدث العديد من الانشقاقات السياسية والتنظيمية في منظمة التحرير الفلسطينية وقضت عدة شخصيات فلسطينية براغماتية معتدلة نحبها في ظروف لا تزال غامضة تتراوح ما بين اتهام لجماعات فلسطينية رافضة للحلول السلمية أو لجهاز الموساد الإسرائيلي· "إسرائيل" نفسها ترى أن المفاوضات السلمية تعيق طموحاتها وأحلامها التي تتحقق عن طريق الحرب بشكل أسهل؛ إذ في كل حرب عربية-"إسرائيلية" تحتل "إسرائيل" مساحات إضافية جديدة قد تفوق مساحتها الأصلية التي استولت عليها عند إنشائها عام 1948 وطردت أهلها الشرعيين منها· وقعت حرب أكتوبر 1973 واضطرت مصر بعدها أن تنأى بنفسها عن الصراع العربي- "الإسرائيلي" ووقّعت عام 1979 اتفاقية كامب ديفيد التي أنهت كلياً حالة الحرب بينها وبين الدولة العبرية·
استمر الفلسطينيون وحيدين تقريباً في نهج الكفاح المسلح مع ميل شديد في الميزان العسكري لصالح "إسرائيل"· في عام 1982 اجتاح الجيش "الإسرائيلي" لبنان وتم القضاء على الوجود السياسي والعسكري الفلسطيني الفاعل الذي كان لبنان يمثل آخر معقل رئيسي له· في مواطن الشتات الجديدة للمقاومة الفلسطينية لم يبق لدى القيادة الفلسطينية إلا طرق باب الحل السلمي، إن أمكن ذلك، لتحقيق ما عجزت البندقية عن تحقيقه مع الاستمرار قدر الاستطاعة في رفع راية الكفاح المسلح عبر عمليات معظمها فردية من هنا وهناك حيث لم تعد هنالك أي جبهة مفتوحة في حدود "إسرائيل" البرية· اشتعلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الأراضي المحتلة في نهاية العام 1987 بعد أن وصلت الإجراءات القمعية والإرهابية "الإسرائيلية" إلى حدود قياسية ضد المدنيين العزّل تحت الاحتلال·
استمرت الانتفاضة سنوات طويلة حيث أنهكت "إسرائيل" المجتمع الفلسطيني اقتصادياً ومادياً ومعنوياً؛ تعاملت "إسرائيل" مع الانتفاضة الأولى كما لو كانت حرباً حقيقية معلنة عليها من قبل الشبان والأطفال المزودين بالحجارة كسلاح وحيد لديهم· كان أحد أهم إفرازات الانتفاضة الأولى ظهور حركة المقاومة الإسلامية حماس كقوة جديدة في الساحة؛ في برنامجها السياسي لا تعترف حماس بوجود "إسرائيل" ولا بمنظمة التحرير الفلسطينية ذات التوجه والتنظيم العام العلماني·
في عام 1991 ذهب الفلسطينيون إلى مؤتمر مدريد للسلام على أمل الحصول على نصيبهم من "وليمة" السلام الموعودة بعد انتهاء حرب الخليج الثانية· كان السيد جيمس بيكر، سكرتير الخارجية الأمريكية، من أكثر الذين شجعوا القيادة الفلسطينية للمشاركة حين بدأت بوضع شروط مسبقة للقبول بمبدأ التفاوض والجلوس مع الطرف "الإسرائيلي" حين قال للوفد الفلسطيني إنه "يأسف للشعب الفلسطيني أن تقوده منظمة تعمل ضد مصالحه!"· من جانبها كانت "إسرائيل" غير راضية بتاتاً عن الذهاب إلى مؤتمر مدريد لأنها كانت تتوقع أنها ستدفع استحقاقات السلام المتمثلة في تطبيق قرارات الشرعية الدولية وأهمها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي صدر عقب نكسة حزيران 1967 بعد مفاوضات سرية وجهود مكثفة تم توقيع اتفاق أوسلو سنة 1994 وانبثق عنه إنشاء سلطة فلسطينية في الأراضي المحتلة مع استثناء كامل لمشاركة من حركة حماس والفصائل الفلسطينية المعارضة الأخرى· بقي خيار المقاومة المسلحة لدى الفصائل الفلسطينية المستثناة كبديل أو متمم للمفاوضات التي سارت ومنذ البداية بشكل غير مرض مع بعض الإنجازات الشكلية· عملياً قتلت "إسرائيل" اتفاق أوسلو قبل أن يرى النور لأنها تفسر كل بند من بنود الاتفاق بالشكل الذي يصعب على الجانب الفلسطيني قبوله· في كل مرة ترى "إسرائيل" أن الوفد الفلسطيني سيقبل بالشروط الجديدة حتى ترفع سقف شروطها من جديد، وهكذا دواليك· وصل الأمر بالسيد إيهود باراك، خليفة إسحاق رابين، إلى أن ينكر وجود شريك فلسطيني للسلام· في سبتمبر عام 2000 قام السيد أرييل شارون بزيارة استفزازية للحرم القدسي الشريف وأعرب من هناك عن اعتقاده بإقامة تعايش وسلام مع الفلسطينيين؛ في ذلك لم يُبق لأنصار اتفاق أوسلو من الفلسطينيين غير أصابع الندم للعض عليها· رداً على تلك الزيارة اندلعت انتفاضة الأقصى الأكثر عنفاً ودموية من سابقتها· أعطت "إسرائيل" الحرية شبه المطلقة لجيشها والمستوطنين للتصرف في المناطق المحتلة وفرضت حصاراً اقتصادياً ومالياً خانقاً على كل مرفق فلسطيني ينبض بالحياة· كذلك ترفض "إسرائيل" وبشكل قاطع التفاوض مع الطرف الفلسطيني وفي جميع الأمور والاتجاهات بما فيها الأمور الحياتية والمعيشية الملحة· في ظل ظروف كهذه لا يبقى لدى الفلسطينيين من وسيلة للدفاع عن النفس ضد هذا القمع الوحشي المنظم إلا العمليات الفدائية لمن يستطيع اختراق جهاز الأمن "الإسرائيلي" الحصين· ارتفع رصيد حماس النضالي في الشارع الفلسطيني حيث تنسب إلى عناصرها النسبة الكبرى من العمليات العسكرية والفدائية الجريئة· بذلت القوى المحلية والإقليمية والدولية جهوداً جبارة من أجل تهدئة الأوضاع المتفجرة مع استمرار النهج "الإسرائيلي" الإرهابي والاستفزازي التصاعدي·
بانتخابات حرة ونزيهة وشفافة وتحت إشراف دولي مباشر فازت حركة المقاومة الإسلامية، حماس، بأغلب مقاعد البرلمان والحقائب الوزارية ورئاسة الحكومة· جاء نجاح حماس كنتيجة لحالة اليأس الفلسطيني من التفاوض اللا-مجدي مع "إسرائيل" وبعد فشل السلطة التي كانت تقودها حركة فتح من إثبات وجودها بسبب الظروف الأمنية والمادية المعقدة التي وضعتها "إسرائيل" فيها؛ دخلت مرحلة السلام الفلسطينية- "الإسرائيلية" حالة "موت سريري"· لا تعترف حركة حماس باتفاق أوسلو الذي تتولى نفسها حكومة منبثقة عنه، فالسلام مع "إسرائيل" المنبثق عن اتفاق أوسلو يمكن أن يوصف بمجمله بأنه أحادي الجانب ويتم تسخيره لخدمة الأمن والمصالح والغايات "الإسرائيلية"·
بقيادة الرئيس أبو مازن لحكومة "حمساوية" الهوية والهوى، ومتمتعاً بصلاحيات واسعة، عليه أن يوفق بين مطالب الاحتلال "الإسرائيلي" التعجيزية من جهة وبين طموحات قوى المقاومة في ظروف محلية وإقليمية ودولية غير مواتية· إذا ما امتثل السيد أبو مازن لمطالب العدو فهو معاد لطموحات شعبه، وإذا ما حاول تلبية طموحات حكومته فهو متشدد ومؤيد للإرهاب من وجهة النظر "الإسرائيلية" والأمريكية المتحكمة؛ عليه أن يتصرف الآن وكأنه واقع تحت مجهرين كبيرين يرقبان أقواله وأفعاله ونواياه الباطنية· في هذا السياق يضطر السيد أبو مازن إلى التصرف على عكس ما يهواه مثل إطلاق وعيد ضد حكومته باستخدام صلاحياته التي تخوله حلها أو وصف العملية الفدائية الأخيرة التي تبنتها حركة الجهاد الإسلامي في تل أبيب بكلمة نابية، هذه المرة لاستيعاب حنق العدو على حساب الصديق· لكن يعرف الجميع أن "إسرائيل" لن تكتفي بأقل من إلقاء الطرف الفلسطيني في أتون حرب أهلية تأمل أن لا ينجو منها أحد، وفي مقدمتهم السيد أبو مازن نفسه والسلطة المنبثقة عن اتفاق أوسلو·
جامعة الإمارات |