جاء الشاب سرار البالغ من العمر 15 عاما الى مركز الاقتراع في منطقته بوادي بانشير المشهور، الذي كان يحكمه في الأيام الخوالي أحمد شاه مسعود، والذي اغتيل قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بيومين، جاء هذا الشاب وبعضا من أفراد قبيلته "الكوشى" على ظهور الجمال للتصويت في الانتخابات التي جرت يوم الأحد الفائت لانتخاب مجلس الشعب (وليسى جيرجا) وانتخاب أعضاء 34 مجلسا محليا للأقاليم الأفغانية المختلفة· كانت وعثاء السفر بادية على محيا الشاب الأمي سرار وباقي أفراد قبيلته الذين كان برفقتهم، والذين كانوا ينتجعون في تلك المنطقة طلبا للكلأ والماء، وكانوا وهم في حماستهم يندفعون نحو صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم منظرا يندى له جبين كثير من المترفين في الديمقراطيات الغربية الذين لا يأبهون بممارسة واحدة من أهم حقوق المواطنة، كما يقول مراسل جريدة الإندبندنت البريطانية (19/9)!!
وتنظيم انتخابات في بلد مترامي الأطراف (647500 كم مربع) يتكون أساسا من سلسلة جبال وعرة ووديان عميقة وصحارى جرداء ليست بالعملية الهينة· فبعض الأماكن كان الوصول إليها بوسائط النقل الحديثة أمرا مستحيلا، مما حتم على الأمم المتحدة - على ذمة جريدة الحياة - استئجار 1200 حمار لنقل صناديق الاقتراع (17/9)!! أضف الى ذلك هشاشة الأوضاع الأمنية، حيث عقد تنظيم طالبان العزم على تخريب تلك العملية السياسية وإفشالها بالدعوة الى مقاطعتها، وقام فعليا باغتيال سبعة من المرشحين وترويع الآخرين والهجوم على المراكز الانتخابية· أما العقبة الأخرى فهي انتشار الأمية في صفوف الشعب الأفغاني، الذي عانى ويلات الحروب والقحط طيلة العقود الثلاثة الماضية، حيث تزيد نسبة الأمية بين صفوفه عن الخمسين في المئة·
ونظام اختيار المرشحين لم يكن بالعملية السهلة بالنسبة إلى هؤلاء، لا بل لم يكن سهلا حتى بالنسبة الى المتعلمين أيضا· فالناخب في منطقة كابول، على سبيل المثال وليس الحصر، حيث تنافس 340 مرشحا للفوز بـ 33 مقعدا، كان عليه الاختيار بين هؤلاء الذين غطت أسماؤهم ثماني ورقات· ويبدو أن مثل هذا التعقيد قد أدى الى الاختيار العشوائي، كما صرحت ربة البيت المبرقعة ليلمان أحمدي وعمرها 35 عاما لمراسل صحيفة الواشنطن بوست (19/9) تقول: "حينما دخلت مركز الاقتراع وأخذت الصحيفة، احترت من أختار لكثرة الأسماء واستعجال المراقبين لي بسرعة الانتهاء، فما كان مني إلا أن وضعت علامة على بعض الأسماء كيفما اتفق، والحق، أنني لا أعلم لمن أعطيت صوتي"·!!
وهذه الانتخابات هي الثانية منذ العام 1969، حيث جرت الانتخابات الرئاسية العام الماضي، فاز بها حامد كرزاي بنصف الأصوات تقريبا، جاء بعده يونس قانوني، الذي يمثل المعارضة الآن، وهو من المشرحين الرئيسيين· ويحق لاثني عشر مليونا ونصف المليون من الرجال والنساء الانتخاب· ويعتقد أن المشاركة ستفوق نصف ذلك الرقم· وقد جند لها النظام والأمم المتحدة إمكانات كبيرة، ففتح 26 ألف مركز انتخابي تحت إشراف نحو 160 ألف موظف بينهم سبعة آلاف من المراقبين الدوليين، وقام بحراسة تلك المراكز والعملية الانتخابية برمتها نحو 100 ألف جندي·
ولعل من طريف هذه الانتخابات وديمقراطيتها أن شارك بها الجميع: أمراء الحرب، وطالبانيون، وأتباع نجيب الله (آخر حاكم ماركسي لأفغانستان أعدمه الطالبان) وليبراليون، بلغ جملتهم 5800 مرشحا بينهم 583 من النساء بعضهن سافرات وأخريات محجبات· وكان السواد الأعظم من هؤلاء من المرشحين المستقلين· ومن أشهر مرشحي طالبان ممن نبذوا العنف، مولي كلام الدين محمد، الذي كان يشغل فيما مضى رئيسا "لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" والذي يطمح، كما ذكر لصحيفة الديلي تلغراف اللندنية (17/9) بأن يطبق الشريعة الإسلامية ما دام يوجد بالدستور مادة تنص "على عدم سن أي قانون يتعارض من ثوابت الشرع الإسلامي"· والآخر هو وزير خارجية طالبان ملا وكيل أحمد متوكلي، الذي تبرأ من ماضيه أمام مراسل الجريدة وعض بنان الندم على وقوفه أمام تعليم الفتاة وموافقته على هدم تمثال بوذا المشهور في باميان بالعام 2001·
أما الباشتونية صفية صديقي، المرشحة الليبرالية التي خاضت الانتخابات في دائرة محافظة، والتي وصفتها جريدة الكرستيان سينس مونيتور (15/9) بأنها "شعلة نار" والتي لم تسلم من أذى المسلحين وهجماتهم، فقد كانت تهاجم أمراء الحرب وطالبان في عقر دارهم وأمام الملأ في حملتها الانتخابية وتحرض ضدهم· وهي لم تتوقف عند هذا الحد، بل هاجمت "فظاظة الرجل الأفغاني وغلظة قلبه" في تعامله مع المرأة· حكت لجمع من النساء والرجال في إحدى القرى عن امرأة حامل جلبت الى المستشفى وقد تركها زوجها تتأوه من الألم في مخزن الشاحنة بينما جلس هو في مقدمتها الوثيرة· تقول: كلمت زوجها وقلت له: كيف ترضى بهذه المعاملة القاسية، أرني تلك النصوص القرآنية التي تقبل بذلك· فما أن سمع الحضور هذا الكلام حتى صفقوا وكان بينهم 300 من الرجال·
مهما يكن من أمر، فأمام أفغانستان طريق طويلة، إذ إنها من أكثر الدول فقرا، رغم تمتعها ببعض المعادن فضلا عن الغاز الطبيعي، فمعدل دخل الفرد السنوي لا يتجاوز الخمسمئة دولار فضلا عن أن زراعة الأفيون والاتجار به تمثل ثلث مجمل ناتجها المحلي، كما تقول المصادر الأمريكية، بالإضافة الى مواردها المحدودة من المياه واستيرادها للمشتقات النفطية· وعليه، ستظل أفغانستان مدة طويلة تعتمد على المساعدات الخارجية قبل أن تقف على رجليها، وقد يساعدها تحولها الديمقراطي في كسب تعاطف العالم معها ومساهمته في إعادة إعمارها·
alyusefi@taleea.com |