تعلمت من أخينا الأستاذ شوقي رافع، مدير تحرير مجلة الزمن الكويتية التي توقفت منذ سنوات، استخدام صيغة أميركان بدلاً من الصيغة الخليجية المعهودة وهي الأمريكان، بيد أن جهود زميلنا باءت بالفشل في تعليمنا أسماء الأشهر بالصيغة العراقية الشامية وهي أيار وآب وغيرها، إذ درجنا على كتابتها مايو وأغسطس على طريقتنا وكان هو يضيف عليها الاسم المقابل· ورغم أنني واصلت استخدام الأميركان إلا إن الصيغة القديمة لها وقع أفضل على مسامعي·
ولعل مرجع ورود صيغة اللفظ على خاطري هو تلك الموجة التي تسود بين الكثير من مثقفينا في التحمس الشديد للدفاع عن مواقف أمريكا، ليس موقفاً بعينة وإنما جملة مواقفها، وليس تأييداً لمواقف إدارة في مقابل أخرى وإنما تأييد جميع إداراتها، أو بالاختصار تأييد الحكومة الأمريكية أياً كان طاقمها ومهما كانت مواقفها· وقد نعذر البعض لمطابقة مصالحهم الوطنية، أو إن شئت القطرية مع المصالح الأمريكية في ظروف تاريخية معينة، وأغلب الظن أن هؤلاء لن يقفوا موقف المؤازر الدائم، وإنما سيكون موقفهم من أمريكا- موافقة واختلافاً - بحسب سياساتها في شتى القضايا بالذات تلك المتعلقة بما يعتبرونه مصالحهم الوطنية أو توجهاتهم الفكرية·
غير أننا لا يمكن أن نعذر أولئك النفر من المثقفين الذين هم مع أمريكا بالمطلق، بحيث إنهم "يكيفون" مواقفهم مع السياسات الأمريكية، وفي كثير من الأحايين "يضحون" بالمصلحة الوطنية أو القومية في سبيل أمريكا تحت مختلف الحجج والذرائع· والعجيب أن الكثيرين من هؤلاء ليسوا "بليبراليين أصلاء" وإنما هم "حديثو لبرلة" - إن جاز التعبير -، والأعجب أن جمهرة كبيرة منهم من ذوى الخلفيات الماركسية، الذين كانوا يرون بأن الإمبريالية المتمثلة بأمريكا هي أعلى مراحل الرأسمالية الزائلة· وكان غالبية هؤلاء ينظرون بقدسية إلى الاتحاد السوفييتي، كما ينظرون بقدسية إلى أمريكا هذه الأيام· فإن اختلف الاتحاد السوفيتي مع الصين فاللوم يقع على ماوتسي تونغ، وإن دخلت جحافل الجيش الأحمر إلى بودابست وبراغ فذاك تحصين للاشتراكية وحفاظ على منعة معسكرها·· وهلمجرا!!
وحديثو اللبرلة هؤلاء لم يتخلصوا من التفكير الشمولي قط، بل أزعم أن تفكيرهم ظل شمولياً إلى النخاع حتى بعد أن طلقوا الماركسية طلاقاً بائناً· فنظرتهم القديمة حول التناقض على الصعيد العالمي بين قوى التقدم بقيادة الاتحاد السوفييتي من جهة، وقوى التخلف والاستغلال بقيادة الولايات المتحدة قد انقلبت بالطريقة نفسها رأساً على عقب!! ومقتهم لموقف الحياد أو الانتقاء رافقهم أيضاً وهم يلبسون حلتهم الفكرية الجديدة، وتوارث هؤلاء خلة التعصب ولم يتخلوا عن الشعار القديم وهو: إن لم تكن معي فأنت ضدي!!
وقد يكون هؤلاء الليبراليون في غفلة من أن عقليتهم الشمولية تشبه عقلية مناوئيهم، بالذات من الاتجاهات الأصولية، الذين لا يرون في أمريكا إلا كل شر مستطير· ألم يضع ابن لادن أمريكا في فسطاس الباطل مقابل فسطاس الحق الذي يتزعمه هو· إن مثل هذه العقلية لا يمكن أن ترى في أمريكا شيئاً ايجابياً، ومثل هذه العقلية الشمولية التي تنظر إلى أمريكا بعيون سلبية "أكان أصحابها أصوليين أم كانوا قوميين أو ماركسيين" لا يمكنها أن ترى الجوانب المضيئة في تطور المجتمع الأمريكي، تلك الجوانب التي يمكن اقتباسها في نهضة الأمة العربية· حتى تجربتها الديمقراطية فهي ترى مثالبها من واقع نقد المفكرين الأمريكيين لها، دون أن تعلم بأن نقد هؤلاء إنما هدفه الارتقاء بديمقراطيتهم - وليس رفضها - بعد أن بلغوا بها درجات من التطور أصبحت من مسلمات الوعي السياسي لديهم· وأن هذا النقد لا يمكن أن يكون مادة للارتقاء بوعي المواطن العربي المحروم ابتداءً من حقوق أساسية!!
والأمريكيون أكثر من الأمريكان ربما يظهرون بأكثر ما يظهرون وضوحاً في الموقف من حل الصراع العربي الإسرائيلي، تلك القضية التي أتجنب دائماً الخوض فيها لقناعات راسخة لدي غير مطروحة للنقاش هذه الأيام· فهؤلاء يلومون الشعب الفلسطيني لخياراته، تلك الخيارات التي جاءت بالأسلوب الديمقراطي، ويطالبون الشعب الفلسطيني - جرياً مع الموقف الأمريكي - بالتنازل وكأن الفلسطينيين هم الجلادون وليسوا الضحايا!! والواقع أن الإدارات الأمريكية منذ نكبة فلسطين في العام1948 منحازة إلى الجانب الإسرائيلي انحيازاً مطلقاً، وأن الولايات المتحدة فيما يخص القضية الفلسطينية تتخذ موقفاً غير مبدئي متأثرة بالتركيبة الداخلية للعملية السياسية في أمريكا· بالمختصر المفيد أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع أن تتخذ موقفاً منصفاً في القضية الفلسطينية لأن يدها مغلولة باللوبي الصهيوني وبالعجز العربي·
ويبدو أن "حديثي اللبرلة" قد غابت عنهم الطريق الأمريكية بالتفكير المشبعة بالعقلية المنفتحة، تلك العقلية التي تنفر من "التخندق" وتقسيم الأشياء إلى أبيض واسود· ولعل ما يعاب على طريقة تفكير جورج بوش الابن وإدارته جنوحه عن الطريقة الأمريكية المعتادة في التفكير، تلك الطريقة التي بات يطلق عليها الليبرالية الجديدة والتي هي مزيج من الرأسمالية غير المقيدة مطعمة بأصولية مسيحية!!
alyusefi@taleea.com |