فاجأ بوش الولايات المتحدة وأوروبا والعالم الثالث "فيما عدا العرب" بترشيحه الرجل الثاني في وزارة الدفاع رئيسا للبنك الدولي للتنمية والتعمير، فليس ثمة ما يؤهل مفكرا حربيا ليكون مصرفيا قديرا في التصدي لقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية وقد سارع البعض لتسويغ هذه الغفلة، يذكر أن روبرت ماكنمارا كان وزيرا للدفاع قبل أن يشغل رئاسة البنك·
ولكن شتان ما بين الرجلين، لقد هزت حرب فيتنام ماكنمارا من الأعماق، حين قاد تلك الحرب الخاسرة ورأى كيف ينجح شعب قليل العدد و"متخلف" في دحر أكبر قوة عسكرية في العالم؟ ثم أنبه ضميره بقية حياته لضخامة عدد القتلى والمشوهين دون أي كسب للولايات المتحدة التي حمل سفيرها في سايجون علم بلاده تحت إبطه وهو يصعد الطيارة التي هرب بها وهي صورة نشرتها شبكات التلفزيون في معظم أرجاء الأرض· ولذلك جاء إلى البنك راغبا في التكفير عن أخطائه وعمل بكل همة ومثابرة على توجيه الجزء الأكبر من نشاط البنك لمساعدة ضحايا الفقر والجهل والمرض في بلدان العالم الثالث· وكان أول من طالب بالهجوم المباشر على الفقر والعمل الدؤوب على الحد من شدته وانتشاره، وأحاط نفسه بمجموعة من الخبراء اللامعين الذين كثير منهم من العالم الثالث· وأذكر أنه سألني في زيارة له للقاهرة عن مشروع تنموي ضخم يعادل مكانة السد العالي يموله البنك من موارده ومما يستطيع جمعه من خارجها، ولم أسارع لرد مرتجل وانتظرت أن يقول باقي ما عنده وقد قال "ما رأيك في مشروع متكامل لتعمير سيناء كلها على أن تستقبل سكانا جددا من الفلسطينيين؟ "فابتسمت وقلت بالإنجليزية No Starter أي مستحيل"· ويبقى أن الرجل لم يفكر في غزو شبه الجزيرة لتنفيذ ما يراه رمزا للسلام والتنمية معا·
أما بول وولفويتز فهو من أبرز "مفكري" المحافظين الجدد الذين يحكمون الولايات المتحدة الآن وهم يؤمنون بهيمنة أمريكا على الكرة الأرضية كلها من حيث إنها الأقوى والأكثر تقدما في التكنولوجيا والتي لا يجوز أن تقبل ظهور منافس أو أكثر لها بل إنها لا تغتفر أي خطر محتمل ولو بعد عقود من الزمن ولا تطمئن إلا إذا مشى البشر كلهم على طريقتها American Way of Life كما يؤمن هؤلاء القوم بما كانت تتوهمه أوروبا قبل أكثر من مئة عام: إنهم وحدهم المتحضرون وغيرهم متحجرون لا يمكن إصلاح أحوالهم إلا يتدخل من "إمبريالية العالم"، وولفويتز معروف في واشنطن باسم مهندس غزو العراق ولم يعتذر الرجل عما ارتكب فيها من أخطاء أو جرائم·
وكما ذكرت في هذا المكان من قبل أن الفشل في العراق رجح كفة من يرون من المحافظين الجدد أن التضحية بالعمل أهون من التضحية بالجنود، ومن ثم كثفت واشنطن من "معوناتها" لجهات متعددة داخل معظم بلاد العالم الثالث، وابتداء من هذا المنطق كان لابد من ضبط التدفق من صنبور مهم هو البنك الدولي وشركاته وشركائه، ونحن في مصر من المتعاملين مع البنك منذ أكثر من عشرين عاما، اقترضنا منه وحصلنا على بعض المنح ووقعنا اتفاقيات لإعادة "الهيكلة والتثبيت" وقد لاحظنا اهتمام البنك في إطار سياسة الحد من الفقر بتمويل مشروعات التعليم والتدريب والبحث العلمي والصحة··· إلخ· ونقارن عادة بين سياسة البنك الحالية بموقفه في 1956 من سحب عرض التمويل الجزئي لبناء السد العالي، والآن نواجه تحت الرئاسة الجديدة: الرفض المطلق لأي تدخل للدولة، والتقتير في كل ما يتصل بالتنمية الاجتماعية، ومطالبة الحكومة بمزيد من خصخصة ما بقي في ملكيتها عن أصول إنتاجية، وبألا تقدم على أي مشروعات تنمية جديدة بل نترك الاستثمار والنمو الاقتصادي لآليات السوق التي يسيطر عليها عندنا مجموعات رجال الأعمال·
ومع ذلك لم تبد أي حكومة عربية، فيما نعلم، استياءها من الضربة القادمة!· |