أصبح التطرف الديني لا يقف عند حدود آراء أصولية متعصبة جامدة إقصائية، وإنما المحنة تتعداه إلى الإرهاب الدموي وما يصاحبه من مناخ ديني لا عقلاني متخلف مصدره ما يقوم به دعاة التجهيل وتغييب الوعي من تعبئة دينية يغلب عليها الطابع العاطفي الانفعالي، يشحنون بها الفئات الاجتماعية الصغيرة والشعبية البسيطة بالروح المعادية لكل من يختلف معهم فكريا ودينيا·
فالهجمة الإرهابية التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية، وقيام الإرهابيين باستهداف كل من هو غير مسلم لقتله أو سحله، هو نتاج طبيعي لما يرضعه الطفل وهو صغير في مناهجنا التعليمية من حقد وبغض وتفرقة على أساس الدين، وحصيلة التعصب البغيض والتفرقة الدينية التي يمارسها بعض أئمة المساجد في كل صلاة جمعة في خطبهم وأدعيتهم ضد الديانات الأخرى، وإفراز طبيعي لمناخ عام مسمم أوجدته سياسات وممارسات حكومية خاطئة، قائمة على جهل وتجاهل ومساومات سياسية ندفع نحن ثمنها الآن، ونتيجة منطقية لإصرار بعض أصحاب القرار السياسي على إمساك العصا من المنتصف بالسماح لأفاعي الفكر والسلوك المتطرف بأن يسمموا عقول الشباب عبر أدوات التعليم والإعلام وبوضع القيود على الحريات الشخصية والعامة·
بل الأخطر أن يكون الإرهاب والتعصب الفكري نتيجة لمواقف يتجلى فيها تقديس رجال الدين واعتبار اجتهاداتهم نهائية وصائبة لتبرير جرائم القتل العشوائي، بالرغم من أنها فتاوى تعبر عن مواقف فكرية تنبع من مصالح وتوجهات سياسية، فبالأمس القريب وجدنا كيف تحول الغناء من حرام الى حلال بضوابط شرعية، وكيف أن حقوق المرأة السياسية حلال في مصر وفقا لفتاوى الأزهر الشريف، وحرام في بعض دول الخليج العربي وفقا للمرجعية السلفية، وكيف أنه لا يسمح للمرأة شرعا بقيادة السيارة في السعودية بينما تجيزه الفتاوى في الكويت بالرغم من وحدة المرجعية السلفية في الدولتين، وكيف أن الاستعانة بالقوات الأمريكية في تحرير الكويت حلال شرعا وفقا لفتاوى مشايخ الأزهر والجزيرة العربية، ولكنه حرام وفقا لفقهاء الأردن واليمن وتونس، وهذا غيض من فيض يتدفق بأمثلة على قدرة الفكر الديني على تطويع الفتاوى بما تقتضيه المصالح الحزبية، وتوظيف الاجتهادات الفقهية في خدمة الأهداف السياسية من أجل تحقيق مشروع الدولة الدينية·
فالتيار الديني المتطرف يحمل مشروعا سياسيا يستمد مشروعيته من سلطة بشرية، تحاول أن ترتهن واقع العصر كله في أسر الماضي، والمصيبة أن بعض حكومات دول الخليج العربي تستنفد قواها البشرية وإمكاناتها المادية في محاربة الفكر المتعصب ومطاردة الإرهابيين لكنها بالأساس تتبنى أيديولوجيتهم وتشجع سلوكهم المتطرف الذي ينتج عنه هذا الإرهاب الدموي بفرض سياسات صارمة تمس الحريات الشخصية والعامة، اعتقادا منها بأنه يمكن بذلك كسب الود السياسي للمتعصبين، ولكن النتيجة هي خضوع الدولة لمزيد من الصلاحيات والإجراءات التي تتدخل بنظام الدولة المدني وتهدد كيانه الاجتماعي والسياسي·
آن الأوان لكي تتحرك الدولة ويساندها المجتمع نحو مواجهة أعداء النور والحرية، الذين يدّعون الوصاية على العقول والأبدان· |