قبل أيام دار بيني وبين صديقة لي حوار طويل حول مشكلة تعليمية تمرّ بها تلميذة صغيرة في الصف الثاني؛ فقد لاحظت صديقتي أنّ الطفلة تكتب العربية بالمقلوب من اليسار إلى اليمين وأنها عاجزة تقريبا عن القراءة على الرغم من أنها تستطيع تحليل الكلمات وتركيبها بسهولة ويسر، وأنها تخلط خلطا كبيرا بين الحروف المتشابهة، ولا تتمكن من قراءة ما سبق أن تعلمته مرات كثيرة· وكانت صديقتي في حالة قلق شديد على الطفلة، وتشعر بالحاجة الماسّة إلى استشارة شخص متخصص في مثل هذه المسائل· والسؤال الذي خطر ببالي حينها: ما موقف المعلمة من كل هذا؟ هل لاحظت المعلمة شيئا من هذه الأمور؟ هل سبق أن تواصلت مع أهل الطفلة حول مشكلاتها التي تتحدثين عنها· فكان جواب صديقتي أنّ ذلك لم يحدث، بل على العكس إنّ درجات الطفلة في مادة اللغة العربية مرتفعة جدا· بل درجاتها في كل المواد مرتفعة· وهنا يحق لنا أن نتساءل على أي أساس أعطيت هذه الطفلة - وغيرها كثير- مثل هذه الدرجات المرتفعة؟
ساقتني هذه الملاحظة إلى الحديث عن التقويم في العملية التعليمية في معظم مؤسساتنا التعليمية الخاصّة منها والحكومية، وإلى أنّ هذه العملية تفتقد الكثير من الوضوح والدقة والصدق والشفافية، وتقوم على معايير قديمة بالية لا تقيس قدرات المتعلم الحقيقية وتعجز عن أن تكون رديفا حقيقيا للنهوض بمستوى التعليم وتحسين مستويات التفكير والفهم عند نسبة كبيرة من المتعلمين، وأنّ هذا الأمر ينعكس انعكاسا خطيرا على أبنائنا وتكوينهم النفسي والعاطفي· وينشئهم على تقبل الكذب غير المعلن والرضا به، حتى يصلوا في مرحلة من مراحل عمرهم لا يرضون عنه بديلا، ويطالبون به من غير وجه حق، ويلجؤون إلى طرق كثيرة ملتوية في سبيل الحصول على ما عهدوه في صغرهم من تقويم يرضي غرورهم وغرور ذويهم·
وتعقيبا على ما قلت أخبرتني صديقتي التي عملت مدة قصيرة معلمة في إحدى المدارس الخاصة أنّ هذا ما يحدث بالفعل في معظم المدارس، ففي المدرسة التي عملت فيها كان المدير يجتمع بالمعلمين قبل اجتماع أولياء الأمور ويخبرهم بأنّ مهمتهم أن يخرج وليّ الأمر من المدرسة راضيا، فالطالب بالنسبة لنا زبون، ولابد من إرضائه بأي شكل من الأشكال· ويستمر في إعطائهم توجيهات عن كيفية التواصل مع أولياء الأمور بالشكل الذي يجعلهم مطمئنين إلى أنّ ابنهم أو ابنتهم يعد من زمرة الطلبة المتفوقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون·
وأذكر أنني في سياق آخر قرأت في صحيفة البيان خبرا عن أم ضربت إحدى المعلمات في منطقة العين التعليمية لأن المعلمة أخبرتها بأن مستوى ابنتها غير مرضي عنه· وفي مناسبة اجتماعية جلست مع طفلة صغيرة وسألتها عن المدرسة فأخبرتني بأنها ممتازة وأنها درجاتها في معظم المواد مئة من مئة· وحين بدأت أسألها أسئلة بسيطة جدا أخذت ترتبك ولا تعرف بماذا تجيب· وهذا التفاوت الكبير اللافت للنظر بين درجات المتعلم ومستواه الحقيقي يظهر جليا في الجامعة حين أفاجأ بكتابات الطالبات، وعجزهن عن التعبير عن أبسط الأفكار بجملة صحيحة تظهر قدرتهن على الفهم والإفهام·
إنّ التعليم الصحيح الذي يعوّل عليه في بناء المستقبل والنهوض بالمجتمع يحتاج أن ينهض على أسس متينة من التكوين الصحيح والتطوير المدروس والنظرة بعيدة المدى التي لا تجزئ الأشياء، والتي تقوم على مبادئ تربوية راسخة، وآليات واضحة مجرّبة، وتدريب مستمر للعاملين في الميدان· كما أنه محتاج لا محالة إلى درجة كبيرة من الشفافية والصدق والعزم الصادق على النهوض بمستوى المتعلم من خلال آليات واستراتيجيات واضحة محددة، تخرجنا من متاهات التعميم والقوالب الجاهزة التي دار عليها الزمان فبادت واهترأت· إنّ تطوير التعليم لا يمكن أن يتحقق إن كان أحد جناحيه - وهو التقويم - يعاني ما يعانيه من ضعف وعدم صدق واعتماد على طرق محدودة مكررة لا تقيس إلا ما يضمن للطالب الدرجة التي تجعله وأهله مطمئنين راضين· وقد لاحظت من خلال لقاءاتي مع كثير من أهل الميدان ميلا واضحا عند معظمهم إلى أن تكون الأسئلة مما في الكتاب حتى نضمن أن يقرأ المتعلم الكتاب ولا يهمله·
وفي هذا الأمر ما فيه من ركون إلى واقع يحتاج حقا إلى ثورة عارمة تقلب الموازين، وتجعل قراءة الكتاب منفصلة عن الدرجات، تجعل قراءة الكتاب مرتبطة بالرغبة في التعلم وتطوير الذات، وتجعل الكتاب بوابة تنفتح على أفق لا نهائي من الأفكار والمعاني التي ينهل منها المتعلم ليشبع فضوله المعرفي ويغذي عقله وروحه ووجدانه· ولا يعني ذلك إسقاط قيمة التقويم وأهميته، بل على العكس إنّ التقويم حينها سيكون تقويما كليا يسائل المتعلم عن موقفه مما تعلمه، ويضعه في موضع المفكر الناقد الواعي، الذي يدرك إدراكا واعيا أنّ ما حواه الكتاب ليس نهائيا ولا قطعيا، وأنّ التعلم والتثقيف لا ينتهيان عند الكلمة الأخيرة في الكتاب المقرر، وتربي المتعلم على تقبّل ذاته وقدراته والعمل على تطويرها·
إنّ الأشياء لا تنفصل عن بعضها البعض، فلا يكفي أن نطور المنهج، ونحن ما نزال عالقين في مسائل شائكة هي أقرب إلى الأعراف والثقافة السائدة التي تسيطر على بنية المجتمع بعامة، وتجعله يتوجس خيفة من الجديد الذي يكسر ما اعتاده من أنماط وإجراءات ضمنت له على مدى طويل أن يكون راضيا مطمئنا بغض النظر عن كونها صادقة حقيقية أم كاذبة زائفة·
يحتاج أبناؤنا منا الكثير من الاهتمام والتفهم والصداقة الصادقة الحريصة على أن ينشؤوا وهم يحترمون الحقائق، ويقدرون الصدق، بل ويطلبونه، وإن كان أحيانا مرّ المذاق، لأن هذه المرارة في الصغر، إن وجدت من يتعهدها ويتفهمها ويتعامل معها بنضج وحب وتقبل، ستنقلب في الكبر حلاوة تحرّرهم من الجري وراء السراب الخادع الذي لا يأتي بخير· إن الطبيعة البشرية قائمة على النقائص، وليس الكمال صفة من صفاتها، فلا بأس أن يعرف أبناؤنا نقائصهم، وما أجمل أن يتربوا على تقبل ذواتهم بنقائصها، وأن يتدربوا على تطوير أنفسهم وتنمية قدراتهم باقتناع ومعرفة وعون كبير من المحيطين بهم، من دون أن يكون النقص عيبا يجب أن يستر، أو خللا يشعره بالدونية ويقلل من شأنه عند نفسه أو عند الآخرين· فإننا لو عدنا إلى ثقافتنا وتراثنا سنجد أنّ كشف النقص في الآخر - إن كان صادقا- يعد بمثابة الهدية التي تقبل ويقدّر مهديها·
* جامعة الإمارات |