التطور سمة من سمات الجنس البشري، وهو إما أن يتجه نحو الأفضل أو يتجه نحو الأسوأ· وكما أن لكل شيء ثمنًا، فإن التطور - سواء كان نحو الأحسن أو نحو الأسوأ- له ثمنه أيضًا، ولكن المهم هو أن يعرف الإنسان أين يتجه، وأن يكون الثمن الذي سيدفعه معقولاً ومتناسبًا مع حجم هذا التطور والتغير الحاصل·
ومن أهم شروط التطور الحقيقي للإنسان -الفرد والمجتمع- عدم المساس بالثوابت والأصول المتعارف عليها، التي لا يمكن أن يوجد لها بديل أكثر ملاءمة منها· ومن أهم هذه الثوابت الأخلاق؛ فالتطور ومجاراة الشعوب المتقدمة في تقدمها لا يعني أن يتنازل الإنسان عن ثوابته، وأن يتخلى عن أخلاقه، لأن هذا لا يعدّ تقدمًا بقدر ما هو تراجع وعودة إلى الوراء·
إننا نعيش في مجتمع تمضي فيه عجلة التطور والتغيير بوتيرة متسارعة، تزداد سرعتها مع تقدم الزمن، ولا نكاد نستوعب مرحلة من التغيير حتى نجد أنفسنا على أبواب مرحلة جديدة، بحيث أصبحنا لا نستطيع التوقف لالتقاط أنفاسنا، وإعادة ترتيب مجمل التغيرات الحادثة لأننا لا نجد وقتًا لذلك في خضم موجة هائلة لم تهدأ منذ سنوات· وفي مجتمع كمجتمعنا المحافظ أساسًا، والمقبل منذ سنوات على عملية تطوير شاملة، يجب أن نكون شديدي الحرص على الإمساك بالعصا من منتصفها؛ فنحافظ على ما نمتلكه أساسًا من قيَم ثابتة وراسخة في نفوسنا، ونجاري ركب التطور متجهين نحو الأفضل، دون أن يمسّ جانب منهما الآخر، أو يؤثر عليه سلبًا·
ويجب أن تكون الأخلاق هي المعيار الذي نعرض عليه ما يستجدّ علينا نتيجة تعاطينا مع شعوب مختلفة ونحن في موقف الآخذ غالبًا، بحيث نعرف ما الذي يمكننا أخذه وما الذي يتوجب علينا رفضه·
وقد ارتبط التطور خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي بالآلة التكنولوجية التي تعدّ في معظم أشكالها وأنواعها ذات حدّين· وما عملية السعي للحصول على هذه الآلة وتوفيرها لأفراد المجتمع إلا بهدف الإفادة من الجانب الإيجابي فيها، ولكننا نفاجأ بمن يعطّل الجانب الإيجابي ولا يستخدم سوى الجانب السلبي· هذا ما حدث مع الأطباق اللاقطة للقنوات الفضائية (الستالايت)، ومع شبكة الإنترنت، ومع تقنية البلوتوث، ومع الكثير من التقنيات التي من شأنها أن تقودنا خطوة نحو الأمام، فإذا بنا - أو ببعض منا- يستخدمها بطريقة تعود بنا خطوات نحو الخلف·
وتعدّ فئة المراهقين والشباب -إناثًا وذكورًا- من أكثر الفئات العمرية التي تقوم بمثل هذه الممارسات الخاطئة، وتوظف الجانب السلبي لأي شيء وتعطل الجانب الإيجابي، وذلك نتيجة لغياب الوعي، وغياب الموجه·
وسأتوقف في هذا السياق عند مثاليْن فقط، دالّين على حاجتنا إلى مراجعة الحركة التقدمية التي نعيشها منذ سنوات لضبطها قبل أن يأتي وقت يستحيل علينا فيه القيام بذلك، لأننا سنكون قد تأخرنا كثيرًا·
في مطلع هذا الأسبوع نشرت الصحف خبرًا مفاده قيام طالب بتصوير المعلمات في إحدى مدارس إمارة رأس الخيمة، بعد أن نجح في إدخال هاتفه (المزوّد بكاميرا) وتصوير من سمحت له الظروف أن يصورها من المعلمات، لينشرها بعد ذلك بين رفاقه وأصدقائه·
ومنذ أيام حدثتني إحدى الصديقات التي تعمل مدرسة في إحدى مدارس الشارقة أن أمرًا مماثلاً قد حدث، ولكن هذه المرة بكاميرا فيديو!!
المدرسات ملومات إلى درجة كبيرة، فكيف يمكن أن تدخل الطالبات كاميرا فيديو إلى المدرسة، وأن يضعنها في الفصل في موقع مناسب جدا بحيث تلتقط عدستُها كل ما يحدث داخله دون أن يلاحظ ذلك أحد؟ ولكن القضية هنا ليست في كيفية حدوث ذلك، أو من التي قامت به، القضية أكبر من ذلك بكثير، وهي قضية أخلاقية بالدرجة الأولى، لأن مثل هذه الحوادث -التي أصبحت متكررة واحتمالات تكرارها مستقبلا تظل واردة ما لم نجد حلاً جذريًا للمسألة- تشير إلى خلل أخلاقي في طلابنا وطالباتنا، فقبل بضع سنوات كانت كاميرات الفيديو موجودة ومتوافرة في معظم البيوت، وفي متناول معظم الأطفال، ولكنهم مع ذلك لم يقوموا بإدخالها إلى المدارس لتصوير المعلمات، وربما لم يفكروا في ذلك قط، لأن الجانب الأخلاقي كان حاضرًا بقوة في وعي الناس ولا وعيهم، وكان الجميع من أولياء الأمور والمدرسين والإداريين وغيرهم حريصين على تنمية ذلك الجانب عند الأبناء والبنات، وهذا لا يعني أنهم الآن حريصون على عدم تنميته، ولكن يبدو أنهم لم يعودوا يحرصون على ذلك بالقدر السابق نفسه·
إن ما حدث -ويحدث - في مدارسنا ليدلّ على أن تغييرًا خطيرًا قد حدث على مستوى الوعي الأخلاقي عند الطلاب والطالبات، وأن هذا التغيير يتجه - للأسف - نحو الأسوأ، لأنهم الآن لا يعرفون ما الذي يصح أن يُفعل - أخلاقيًا- وما الذي لا يصح، أو أنهم يعرفون ولكنهم لا يهتمون بفعل الصواب وتجنب الخطأ، وكلا الاحتمالين مخيف·
إن علينا أن نوجه اهتمامًا أكبر إلى هؤلاء الطلاب والطالبات، الذين يمثلون نواة المجتمع في مرحلة قادمة ستأتي سريعًا دون أن نشعر بها· وإذا كانت المدرسة جزءًا من المجتمع، بل لبنة أساسية من لبناته، فيجب علينا ألا نهمل هذا الجزء، وأن ننظر إلى العملية التعليمية نظرة شمولية، فلا نهتم فقط بتطويرها من خلال استجلاب أحدث النظريات التربوية العالمية، وتطبيقها -أو تجريبها- على طلابنا وطالباتنا، غاضّين الطرف عن أمور مهمة كثيرة يجب أخذها في الاعتبار، مثل مدى ملاءمة تلك النظريات لمجتمعاتنا، ولطبيعة تلاميذنا، وكذلك وجود المدرسين الأكْفاء المؤهلين لتطبيقها على وجهها الصحيح·
كما يجب ألا نكتفي بالحرص الشديد على مواكبة آخر ما استجدّ على الساحة التكنولوجية في مؤسساتنا التعليمية، ونحن لا نلتفت إلى أمور أكثر جوهرية مثل تنمية الوعي الأخلاقي عند الطلاب والطالبات، وفتح حلقات نقاش وقنوات تواصل بينهم وبين مجتمعهم الذي يجب أن يتعلموا منه ليتمكنوا من أن يعطوه في المستقبل·
إننا نسير باتجاه تغليب الجانب الإنتاجي على غيره من الجوانب، مع أن تنمية شخصية الطالب لا تكون بالتركيز على جانب أو اثنين وإهمال بقية الجوانب المكونة للشخصية، لأن كل جانب منها يكمل البقية، وستكون فعالية الأداء والمخرَجات أفضل بكثير منها في حالة تمّ تعطيل بعضها، ولكن الحادث الآن هو أننا نفكر فقط في عملية التطوير، وهي عملية ذات وجه واحد فقط عندنا، وهي أن ننشئ جيلا يتقن اللغة الإنجليزية ويجيد التعامل بمهارة مع الحاسوب، أي أننا نؤهلهم لإيجاد مكان لهم في سوق العمل، وليس في المجتمع، لذلك نجد أن كثيرا من طلابنا وطالباتنا بارعين في التعامل مع الآلات التكنولوجية، ولكن كثيرين منهم يفتقدون الجانب الأخلاقي، وقد بدأت بواكير مثل هذه الطريقة في إعداد الجيل القادم تؤتي ثمارها من خلال ما نشاهده الآن من إقبال على الكثير من البرامج التكنولوجية التي يتقنون التعامل معها، ولكنهم يوظفونها -في الغالب - في أمور تخلو من الأخلاق·
إن عملية التطور الحقة هي تلك العملية التي تجعلنا نتقدم نحو المستقبل بمجتمع سليم وخالٍ من العيوب التي قد تشوّه ازدهاره الكلي· والتوجه إلى طلاب المدارس وطالباتها بالعناية من جميع جوانبها هو أفضل طريق للوصول إلى المستقبل الذي نتطلع إليه بالصورة التي نريدها، لأننا لن نشعر بالرضى عن أنفسنا إذا بلغنا ذروة التطور التقني والاقتصادي على سبيل المثال، ولم نبلغ المستوى نفسه في الجانب الأخلاقي بسبب تقصيرنا وإهمالنا؛ فالصورة لن تظهر بالنقاء الذي نأمله أو نتوقعه إذا سلطنا الإضاءة على بعض جوانبها وتركنا بعضها الآخر معتمًا·
جامعة الإمارات
sunono@yahoo.com |