لا يخلو العمل التطوعي المستجد في مؤسسات المجتمع المدني من بعض الظواهر اللصيقة به التي ربما اختلف المُقيّمون في تثمينها بين قائل بسلبيتها وقائل بإيجابيتها·
ولعل أبرز تلك الظواهر تلك المتعلقة ببطء تداول أو تدوير قيادة مؤسسات المجتمع المدني، وهي قيادة منتخبة انتخابا حراً من أعضاء تلك المؤسسات· وهذا البطء بالتداول يفضي حتماً إلى نشوء “قيادات تقليدية” أو “أبوية” تتسم في غالب الأحيان بالصفة “الكاريزمية” أي أنها تمتلك الصفات الفطرية للقيادة·
إن أبرز “مرض” يولده بطء تداول القيادة في “هكذا حالة” هو جمود عمل المؤسسة وعدم تجديده وسيره على وتيرة واحدة برغم تغير الزمن· أما أبرز الجوانب الإيجابية لذلك فهو استقرار المؤسسة وسيرها على نهج واحد دون اضطراب أو انقطاع·
ولا تقتصر ظاهرة بطء تداول “السلطة” أو “القيادة” في مؤسسات المجتمع المدني على تلك المؤسسات التي تعمل في الخفاء كالأحزاب السرية، وإن كانت في حالة الأخيرة تكون النزعة نحو التمسك بالقيادات “التاريخية” و”بالرواد الأوائل” و”الآباء المؤسسين” أكثر حدة، أقول لا تقتصر هذه الظاهرة على تلك المؤسسات التي تمر بظروف عصيبة وهي العمل السري والملاحقة أمنياً، بل تشمل أيضاً تلك المؤسسات التي تعمل في العلن وتمارس نشاطاً أبعد ما يكون عن السياسة، كالنشاط الاجتماعي البحت أو الخيري أوغير ذلك·
وأخيراً، ظاهرة بطء تداول السلطة وتدويرها وثبات القيادة هي فضلاً عن ذلك ليست خاصية ملازمة لمؤسسات المجتمع المدني في المجتمعات المتخلفة، بل نلحظها أيضاً في مؤسسات المجتمع المدني في الدول المتقدمة، ولو بصورة أقل·
وقد يكون أحد الأسباب لذلك هو ثقة الأعضاء الفاعلين لتلك المؤسسات بالقيادات والزعامات القائمة عليها واطمئنانهم إليهم، حيث يمثل وجودهم استقراراً لنهج معين أو حفاظاً على توازنات معينة· إن تلك القيادات والزعامات لم تكتسب تلك الثقة إلا بعد نضال طويل وعطاء متواصل، بحيث إنهم اكتسبوا شرعية وجودهم ـــ في أعين مناصريهم ـــ بفعل رصيدهم التاريخي، فقد “صنع” هؤلاء “زعامتهم” بعملهم وعطائهم، ولم يُمنحوها منحاً·
هذا الوضع يخلق صراعاً أو في أفضل الأحوال تنافساً بين جيل صاعد من الشباب وتلك القيادات المتربعة على العمل· ونلحظ بعض الشباب، ممن يتوسمون في أنفسهم روح القيادة ويطمحون للوصول إلى دفتها يتبرمون من ذلك التباطؤ الذي يصل في أحايين كثيرة إلى حالات الثبات·
والحق، إن القيادات نادراً ما تأخذ بأيدي الشباب من ذوي الصفات القيادية (ونحن نتكلم بعمومية شديدة مستندين إلى معطيات علمي الاجتماع والسياسة دون أن يكون قصدنا أحد بذاته)· إن عدم أخذهم بأيدي الشباب يرجع إلى سببين: الأول، أن المُلك (بضم الميم) والسلطان والقوة والنفوذ اختصارا القيادة هي من الامتيازات العزيزة Scarce Resources التي لا يتخلى عنها صاحبها طواعية· قيل للجاحظ ما اللذة؟ قال: الأمر والنهي· وعليه، لا نتوقع من القيادات (على الجملة وبشكل عام) أن تتنازل لغيرها عن مكانتها وتقدمها على طبق من فضة· الثاني، وقد تتبنى القيادات الرشيدة (وهي نادرة) عناصر شابة تتوسم فيها الروح القيادية والنفس الطويل في العمل، لكن ما لم تكن تلك القيادات الشابة هي ذاتها تمتلك الصفات التي تؤهلها للريادة مقرونة بعمل دؤوب لا ينقطع، طويل النفس فإن القيادات الأصلية مهما عملت فإنها لا تستطيع خلق قيادات من العدم·
نسجى هذا الكلام للشباب الذين يتعجلون الأمور ويؤمنون بنظرية قدرة القيادات التاريخية على خلق قيادات بديلة لها كيفما أرادت· وبذا يرون في موقف تلك القيادات تقصيراً في حقهم أو عائقاً أمامهم، أو كلا الأمرين مجتمعين، للوصول إلى المراكز القيادية في العمل في مؤسسات المجتمع المدني وبالأخص في العمل بالتنظيمات والتجمعات السياسية· نقول لهؤلاء، من غير عمل دؤوب ومتواصل، مع وجود المؤهلات الشخصية التي يتحلى بها القائد، لا يستطيع هؤلاء الصعودحتى لو مَهد لهم الآخرون الدرب· قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتّال |