رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 30 مايو 2007
العدد 1776

الامتلاء من أجل العطاء
د. فاطمة البريكي
sunono@yahoo.com

نسعى دائمًا لنأخذ، ونبدأ صغارًا في إدراك وجودنا من خلال مفهوم الأخذ؛ فنكبر ونحن نتعلم كيف نستطيع أن نأخذ أكبر قدر ممكن من أي شيء نرغب فيه، خصوصًا إذا كان هذا الشيء سيعود علينا -عاجلاً أو آجلاً- بمردود يستحق عناء التعب في سبيله، لذلك لا نقصر أبدًا في بذل كل ما يمكننا بذله من أجل الوصول إلى مطلوبنا، لكننا كثيرًا ما ننسى أن علينا أن نعطي بمقدار ما نأخذ، وأن فعل الأخذ له فعل آخر يساويه في القوة ويخالفه في الاتجاه، وهو فعل العطاء·

وبعيدًا عن أي تعميم، فإننا على الرغم من كثير مما نقوله ونردده عن ضرورة العمل من أجل الآخرين، ومن أجل المجتمع المحيط بنا، وما نعلنه في كثير من أحاديثنا وكتاباتنا عن تحقيقنا أنفسنا من خلال المجتمع المحيط بنا، إلا أننا نقول ما لا نفعل، وعندما نقف موقفًا اختياريًا بين مصالحنا الفردية، ومصلحة المجتمع المحيط بنا، أو مصلحة شريحة كبيرة من هذا المجتمع، فإن الكثيرين يفضلون اختيار الكفة التي تخدم مصلحتهم الفردية، متناسين كل ما يرددونه عن ذوبانهم في المجتمع، وتحقيق ذواتهم من خلال الآخرين المحيطين بهم·

للفرد حق على الجماعة، كما للجماعة حق على الفرد، دون أن يتمادى أحد الطرفين في تحديد تلك الحقوق، ودون أن ينكص أي من الطرفين عن أداء حق الطرف الآخر حين يحين آنه· واكتفاء أحد الطرفين بالأخذ من الآخر دون العطاء -تحت قناع الحقوق والالتزامات- سيؤدي إلى بحث الطرف المتجنى عليه عن جهة أخرى تتقن العطاء بمقدار ما تتقن الأخذ، وهذا يشوّه علاقة الطرفين ببعضهما، ويربكهما، ويصيبهما بمسّ متبادل من عدم الثقة·

الأمر كذلك يُقال في علاقة الأفراد ببعضهم، إذ لا يستطيع شخص أن يعطي شخصًا آخر بشكل دائم ومستمر، في حين يكتفي الطرف الآخر بالأخذ فقط، دون أن يبادل العطاء بعطاء مثله، ولو على نحو جزئي·

لا غضاضة في أن يأخذ الإنسان شيئًا، أو أن يسعى لأخذ ما يرى أنه يستحقه، وأنه بذلك لا يتجنى على حق من حقوق الآخرين، بل على العكس، هذا أمر محمود، ويدخل في مفهوم السعي "اسعَ يا عبدي وأنا أسعى معك"· إذ من الطبيعي أن يسعى الإنسان في سبيل مصالحه، ولتأمين احتياجاته، أي أنه يسعى ليأخذ· لكن المهم أيضًا أن نتعلم العطاء حين نتعلم الأخذ، وحين نمد يدنا لنأخذ، يجب أن نعرف أن هذه اليد نفسها عليها أن تُمَدّ مرة أخرى لتعطي، ولو لم تكن الحياة ماضية بهذه الطريقة أساسًا لما كانت قد استمرت حتى هذه اللحظة، التي تمرّ عليها وهي في طريقها نحو زمن لا نعلم متى نهايته·

نستطيع أن ندرك فكرة العطاء، أو حب العطاء، حين نفكر أن الحياة تسير على نحو دائري، ليس فقط لأنها كروية الشكل، ولكن لأن صيرورتها نحو اللانهاية على الأقل في مستوى علمنا وإدراكنا طالما أننا لا نعرف متى تحين النهاية تجعلها تدور لتعود من حيث بدأت، وهكذا دواليك. وإذا كانت تدور وتعود لتدور مرة أخرى، فمن الطبيعي أن تمرّ علينا عدة مرات في طريقها الدوراني هذا، وإن لم نكن قد قدمنا لأنفسنا خيرًا بتقديم الخير للآخرين، فإننا سنجني على قدر ما قدمناه، وإن لم نقدم شيئًا فلن نجني شيئًا· هذا هو منطق الحياة·· أن يأخذ الإنسان بمقدار ما يعطي، ومن لا يعطي الآخرين شيئًا من عنده، لن تعطيه الحياة شيئًا من عندها·

قبل عدة أيام، أثناء مكالمة هاتفية لي مع إحدى صديقات الدراسة، دار بيننا نقاش مطول حول ثنائية الأخذ والعطاء، وهل يجب على الإنسان أن يأخذ فقط، أو أن يعطي فقط، أو أن الإنسان الطبيعي يستطيع أن يوازن بينهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر؛ فوجدت أننا نتفق على أن التعود على الأخذ فقط ينشئ إنسانًا اتكاليًا، أنانيًا، لا يبالي بغيره، ولا يرى الآخر إلا بمقدار ما يراه نافعًا له، خادمًا لمصالحه· وهذه صورة لا يرضاها عاقل لنفسه ولا لمن يحب·

وفي الوقت نفسه فإن التعود على العطاء فقط يصبغ الشخص بصبغة السذاجة، والبلاهة، ويجعله -في هذا الزمن طبعا- موضع استهزاء الآخرين، وتندراتهم، على الرغم من أنهم جميعًا يتملقونه من أجل الحصول على ما يمكنهم الحصول عليه منه، لكنهم يمدون أيديهم أمامه كي يأخذوا منه، ويمدوا ألسنتهم خلفه كي يضحكوا عليه·

أما النموذج الأكثر مثالية فهو الذي يتحقق بالجمع بين الثنائيتين المتناقضتين: الأخذ والعطاء· إن الأخذ ضروري لمن أراد أن يعطي، إذ لا يمكنه أن يعطي وأن يواصل عطاءه إلا إذا أخذ، وبشكل مستمر ومنظم، كي يتمكن من إعادة تشغيل هذا المأخوذ داخليًا، وإخضاعه لعمليات التفكير والتحليل والتأويل وغيرها، حتى يتمكن من العطاء بعد ذلك· من الضروري أن يسعى الإنسان إلى الامتلاء حتى يتمكن من العطاء· أما التفكير في العطاء مع الزهد في الأخذ فإنه سيؤدي إلى نتاج ركيك، ضعيف، مهزوز، لا تقوم له قائمة·

وعندما أنهيتُ المكالمة، فكرت في ذلك النقاش، ووجدت أن كثيرًا من الناس يفضلون الأخذ، بل إنهم لا يعرفون سوى مفردات الأخذ، التي قد تصل إلى مرحلة الانتزاع، والسلب، وهم يفعلون ذلك صادرين عن قناعة تامة بأنهم يأخذون حقًا من حقوقهم، وأنه ليس من حق أي شخص أن يحول بينهم وبين أخذ هذا الحق· ولكنهم في المقابل لا يعرفون أي شيء من مفردات العطاء، ولا يستطيعون فهم دلالاتها، أو تقديم تطبيق حي لها، لأنهم اعتادوا منذ نعومة أظفارهم على أن يأخذوا ما يريدون، وأن يصلوا إلى ما يريدون دون بذل جهد يُذكَر، فيجدون لهذا الفعل لذة عظيمة في نفوسهم، ولم يخبرهم أي شخص بأن العملية المعاكسة، وهي العطاء، لا تقلّ لذة عن تلك التي يشعر بها من يقوم بالأخذ·

من يتذوق حلاوة العطاء، وحلاوة الامتلاء من أجل العطاء، سيجد صعوبة كبيرة في تقبل أن يقوم بدور الآخذ دون أن يجد هذا المأخوذ قنوات تفريغ مناسبة في نفسه، تجري فيها دون عوائق، أو موانع تؤدي إلى حجزها أو تحول دون إفادة الآخرين منها· ولكنني لاحظتُ أيضًا أن كثيرًا من الناس يعشقون العطاء دون انتظار مقابل، وهم موجودون بيننا بكثرة أيضًا·· إنهم يعطون الآخرين المحيطين بهم، ممن يعرفونهم ولا يعرفونهم، ويعطون مجتمعهم عمومًا دون حدود، وهم على استعداد كذلك لأن يعطوا نفوسَهم دون لحظةِ ترددٍ أو تفكير·

الفئتان موجودتان: فئة الآخذين وفئة المعطين، والأخذ إما أن يكون من أجل الأخذ فقط، وهذا وجهه السلبي، أو أن يكون من أجل تعزيز القدرة على العطاء، وهذا هو وجهه الإيجابي· والعطاء إما أن يكون رياءً، كي يُقال إن فلانًا يعطي، وهذا هو وجهه السلبي، أو أن يكون لخير الناس وتقديم العون والنفع لهم، وهذا هو وجهه الإيجابي· والمهم في كل هذا هو أن يستطيع كل منا أن يصنّف نفسه بصدق، وأن يعرف أي نوع من الناس هو، وأن يشعر بعد ذلك برضى داخلي عن نفسه·

* جامعة الإمارات

 sunono@yahoo.com

�����
   
�������   ������ �����
الأشقاء الأشقياء
القارئة الصغيرة
الامتلاء من أجل العطاء
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا
التفكير من أجل التغيير
تطوير العقول أو تغييرها
تطوير العقول أو تغييرها
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
الكبيرُ كبيرٌ دائمًا
إنفلونزا الطيور تعود من جديد
معنى التجربة
السلطة الذكورية في حضرة الموت
الطيور المهاجرة
"من غشنا فليس منّا"
كأنني لم أعرفه من قبل
ثلاثية الحضور والصوت والكتابة
المطبّلون في الأتراح
بين الفعل.. وردة الفعل
التواصل في رمضان
  Next Page

أبطال المجتمع:
ياسر سعيد حارب
يبدو أن الموضوع أصبح جديا:
الدكتور محمد سلمان العبودي
نشد على يديْ هذا الرجل:
د. لطيفة النجار
الإرهاب النسوي:
عبد العزيز خليل المطوع
جمال عبدالناصر!!:
سعاد المعجل
تكفير الناس وقتلهم:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
قليل من الحياء:
على محمود خاجه
المجتمع المحافظ والنزعة الفردية:
فهد راشد المطيري
وزارة الشؤون "لا عيون ولا أذون":
المهندس محمد فهد الظفيري
جهد أقل...
وإصلاح وتطوير أكثر:
فيصل عبدالله عبدالنبي
وسائل المعلمين... هي نتائج الطلبة:
علي سويدان
عصابة برتبة مقدم:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
بقاء الجراح جرح... للإصلاح!:
محمد جوهر حيات
59 عاما على نكبة فلسطين (2):
عبدالله عيسى الموسوي
"الأنا" أولا و"الكويت" أخيرا:
د. بهيجة بهبهاني
سراب الإصلاح وحقيقة الفساد:
أحمد سعود المطرود
الامتلاء من أجل العطاء:
د. فاطمة البريكي
هوامش على حديث دعيج الشمري وقول ما لا يقال!:
خالد عيد العنزي*