قارب رمضان على منتصفه، ولا بد أن يسأل المرء نفسه عما فعله خلال النصف الأول من هذا الشهر الفضيل الذي يأتينا زائرًا مرة كل عام، ليمنحنا مجالاً رحبًا للجلوس مع النفس، ومراجعتها، ومحاسبتها، وفرصة للوقوف على أفضل ما فيها والتأكيد عليه، وكذلك الوقوف على أسوأ ما فيها والسعي نحو التخلص منه أو تغييره·
إن هذا الشهر الفضيل هو الفرصة السنوية الحقيقية للمضي بالنفس قدمًا نحو الأفضل، على مختلف الجوانب، ولعل من أهمها جانب التواصل، وهو على مستويات مختلفة: التواصل الروحاني مع الله -عز وجلّ-، والتواصل العائلي، والتواصل الاجتماعي مع الأهل والأقارب، وهو ما يُعرف بصلة الرحم، والتواصل الإنساني مع الآخرين، مع جميع الناس، الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، إذ يكون هذا الشهر خير مروّض لنفوسنا الجامحة خلال بقية شهور السنة، لتهدأ وتخفف من جموحها، وتعيد التفكير في طريقة تواصلها مع الآخرين، الأعلى منها والأدنى على حد سواء، للتخلص من أي خلل في تواصلها معهم، وإصلاح أي عيب في طريقة التواصل أو طبيعته·
يغلب على شهر رمضان البعد الديني الروحاني؛ فهو شهر الصوم والعبادة، وكلنا نعرف فوائد الصوم من الناحية الجسمانية ومن الناحية الروحانية، لأنه يدخل الإنسان في أجواء الزهد والحرمان، ويشعر الغني بأخيه الفقير، وهو يفعل ذلك إذعانًا لأوامر المولى -عز وجلّ-· لكن الغريب في هذا الشهر هو التزام بعض الناس بالصوم بحماس في مقابل عدم الاهتمام بالصلاة، فلا يكادون يصلون الفروض، ناهيك عن غيرها، وخصوصًا صلاة التراويح· وفي مبرراتهم لهذا التناقض يسمع المرء عجبًا؛ فمنهم من يدّعي أنه يقوم بالأصعب، وهو الصيام والحرمان من الطعام والشراب خصوصًا في جو مثل جو بلادنا شديد الحرارة، ومنهم من يرى أن الصلاة أمر خاص بينه وبين الله -تعالى- والله غفور رحيم! ومنهم من يقول إنه يؤدي فرائضه كاملة، أما صلاة التراويح فإنه لا يستطيع أداءها لأنه يشعر بعد الإفطار بالامتلاء التام الذي يحول دون قيامه بأدنى حركة، فكيف يصلي ثمانية ركعات -مثلاً- بالإضافة إلى صلاة العشاء؟ هذا فوق مستوى طاقته!
لقد فقد شهر رمضان عند بعض الناس بعده الروحاني، وأصبح مجرد إمساك عن الطعام والشراب في نهاره، مع تعويض كامل لذلك في ليله، كما أصبح الإمساك عن المأكل والمشرب حجة للتخلص من معظم الفروض والواجبات، لعدم القدرة على فعل أي شيء خلال نهار حارّ طويل والشخص صائم، وكذلك يكون الحال بعد الإفطار لانتقال بعض الصائمين من تلك الحالة إلى نقيضها بالانكباب على كل ما يمكن أكله وشربه بمجرد أن يؤذن المؤذن·
إن التواصل مع الله -تعالى- يعني صيام نهار رمضان وقيام ليله، وهذا الذي يمنح الصائم القائم القدرة على تحقيق ألوان من التواصل الروحاني، واحتساب كل ما يقوم به من قول أو عمل لله -عز وجل-، وهو الذي سيبرز له قيمة التواصل الإنساني مع الآخرين، سواء كانوا أفراد أسرته، أو أفراد عائلته الكبيرة، أو أصدقاءه، أو بقية أفراد مجتمعه·
ويبدو تقصيرنا على مستوى التواصل العائلي واضحًا خلال أيام رمضان المبارك؛ ففي هذا الشهر ميزة عظيمة وهي أنه يجمع معظم أفراد الأسرة على مائدة واحدة خلال وجبة الإفطار على الأقل، وبعض الأسر لا تزال تجتمع على وجبة السحور أيضًا· وعلى الرغم من أننا أصبحنا نجلس على مائدة الإفطار كعائلة واحدة إلا أننا نادرًا ما نتبادل كلمة أو بضع كلمات خلال جلوسنا على المائدة، لأننا جميعًا مشغولون بمتابعة أحد البرامج على الشاشة، أو بمتابعة أحداث المسلسلات التي تسلب عقول الناس في رمضان لدرجة أن كثيرين منهم يصلّون بسرعة لكي لا يفوتهم شيء من أحداث المسلسل، أو يسوّفون صلاتهم إلى أن تنتهي الحلقة، وقد يصلون على عجل في الوقت الفاصل بين نهاية مسلسل وبداية آخر·
لقد قلّ التواصل العائلي حتى على مستوى أفراد الأسرة الواحدة في هذا الشهر رغم اجتماع معظم أفراد الأسرة على المائدة بخلاف أيام السنة الأخرى التي قد لا يجتمع فيها كل أفراد الأسرة في وقت الوجبات رغم تعددها·
وعلى مستوى التواصل الاجتماعي يعدّ إقبال شهر رمضان مناسبة جميلة لصلة الأرحام وذوي القربى، وتجديد العلاقات مع الأهل والأقرباء، وبثّ الحياة في أوردة التواصل العائلي وشرايينه، التي قد تمرّ عليها شهور السنة بطولها وهي تعاني الجفاف، وبهذا يعدّ شهر رمضان فرصة مناسبة لتواصل حقيقي يزيد المحبة في القلوب، ويُشعر كل طرف بحرص الطرف الآخر على توثيق علاقته به·
ولكن اللافت للنظر في أيامنا هذه هو أن شهر رمضان أصبح شهر الخروج للمجمعات التجارية، والجلوس في المقاهي مع الأصدقاء والصديقات، وأصبح أيضًا شهر الدراما التلفزيونية التي تمنع فريقًا آخر من الناس من مغادرة منازلهم، وتجبرهم على ملازمة غرفة التلفزيون تحديدًا لحرصهم على متابعة كل ما يُعرض في القنوات الفضائية الكثيرة المتنافسة على جذب المشاهدين إلى شاشاتها طول أيام الشهر الفضيل ولياليه·
أما التواصل الإنساني بصورة عامة فيبلغ في رمضان ذروته ولكن بصورة عكسية، إذ يصبح بعض الصائمين قنابل موقوتة تسير بين الناس، ويجب على الآخرين تجنبها وتجنب الاحتكاك بها لأنها قد تنفجر في أي لحظة·
يعزو البعض عصبيتهم الزائدة، وعدم قدرتهم على تحمل أي شخص وأية كلمة للصيام نفسه -علاوة على حرارة الجو- وعدم القدرة على تهدئة الأعصاب بسيجارة أو بفنجان من القهوة، لذلك يكونون غير قادرين على ضبط تواصلهم مع الآخرين·
وإذا فكرنا في رمضان، وفي الحكمة من هذا الشهر الفضيل ومن إقرار الصيام فيه نجد أنها عكس ما يقوم به الكثيرون؛ فرمضان شهر يعلم الناس دروسًا من الصبر والتحمل، والذي يحدث أننا نفقد قدرتنا على الصبر والتحمل خلال هذا الشهر أكثر من غيره؛ فأين فائدة الصيام، وهل الصيام هو مجرد الامتناع عن الطعام والشراب دون أن يحدث هذا الامتناع أثرًا إيجابيًا في نفوسنا؟
وتدخل تصرفات بعض الصائمين وسلوكياتهم قبيل وقت الإفطار ضمن حديثنا عن التواصل الإنساني خلال هذا الشهر؛ فعندما يحين موعد الإفطار من الأفضل أن يتجنب المرء الخروج إلى الشارع، سواء كان راكبًا أو راجلاً، لأنه سيفاجأ بأولئك الذين يفقدون رشدهم فقدًا مؤقتًا خلال الدقائق السابقة لأذان المغرب، فيقودون سياراتهم بسرعة جنونية، وبتهور مبالغ فيه، كأنهم يريدون أن يستعجلوا الزمن، أو أن يسابقوه، وأن يصلوا إلى منازلهم قبل أن يسمعوا المؤذن يصيح (الله أكبر)، حتى ليظن من يراهم أنهم سيقضون جوعًا إن وصلوا متأخرين عن ذلك قليلا، أو أنهم سيضيّعون صيامهم إذا تأخروا عن الأكل مع أذان المغرب·
إن رمضان كما ذكرنا هو أفضل فرصة لتجديد التواصل بأنواعه ومستوياته المختلفة، فلا يحسن بنا أن نضيع هذه الفرصة· وإذا كان المرء حريصًا على أن يخرج من كل تجربة جديدة يعيشها بفائدة فإن أجمل فائدة من تجربة الصوم الرمضانية هي أن يخرج منها الصائم كل عام بدرس جديد، ومن أهم هذه الدروس هو إقامة التواصل مع الله عز وجل، وهو الذي سيفتح له أبواب التواصل مع الآخرين، وسييسر له سبلها·
جامعة الإمارات |