رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 18 أبريل 2007
العدد 1770

انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
د. فاطمة البريكي
sunono@yahoo.com

يبدو أن الحياة تسير بالمقلوب حقًا، لا أعرف إن كان من حقي أن أصدر حكمًا عامًا كهذا أو لا، لكن الصورة التي أرسلها أحد القراء مشكورًا -لي ولمجموعة من الكتاب-، أحدثت في نفسي قدرًا كبيرًا من الذهول والاضطراب الذي أصابني بالعجز عن الكلام أو التفكير لبضع دقائق متواصلة، أصبحت بعدها عرضة لمسّ من تشويش وشرود في أوقات متقطعة خلال اليوم نفسه·

ليس لي مصدر آخر للصورة غير الرسالة الإلكترونية التي وصلتني من القارئ الكريم، ومذكور فيها أن هذه الصورة مأخوذة من عرض أزياء عالمي، وتظهر في الصورة إحدى العارضات وقد وضعت (حذاء) أسود -أعزّ الله القراء- على رأسها بطريقة مقلوبة، بحيث يكون أسفل الحذاء للأعلى - بدلا من أن يكون أسفله للأسفل كالعادة-، ومقدمته للخلف -بدلا من أن تكون مقدمته للأمام كما هو طبيعي-، بالإضافة إلى انقلابه عن موضعه الأصلي، من أسفل الجسم البشري تحت القدم مباشرة ليصبح في أعلى الجسم البشري فوق الرأس مباشرة· إنه انقلاب تام بامتياز، لم يبقِ على شيء في موضعه الصحيح· ولا بد أن يكون لهذا دلالاته·

لا أميل إلى البحث والتدقيق في مصداقية الصورة، لمعرفة ما إذا كانت قد أُخذت من عرض أزياء عالمي حقيقي، أو أنها مجرد دعابات إنترنتية - وما أكثرها - يطلقها بعض من يمتلكون وقتًا وفراغاً، ولا يمتلكون عقلا وحكمة، وسأكتفي بقراءة الصورة كما أراها، ومحاولة استنباط دلالاتها من خلال الآثار التي تركتها في نفسي، دون الاتكاء على أي معلومات خارجها·

بعد أن ذهبت لحظات الصدمة، أعدت تأمل الصورة، بعينين تبصران ما تريانه، وليس كتلك الدقائق التي صدمتني فيها الصورة إذ كنت أرى ولا أرى، وحاولت أن أفسرها ثم أن أفسر في ضوئها واقعنا، على جميع المستويات والصعد، فوجدت أنها تعبر عن حالنا مع الدنيا، وحال الدنيا معنا؛ فكل شيء أصبح يمشي بالمقلوب، وكثير من الأشياء فارقت مواضعها الطبيعية وأصبحت تحتلّ أماكن ليست لها، وبدا الأمر غريبًا في البداية، ثم اعتاد الناس عليه، ثم أصبحوا يبررونه بل ويتحدثون عن سلامة وجوده في هذا الموضع بالذات دون غيره، وأحيانًا يتحدثون عن القيم المختلفة التي تتحقق بوجوده في هذا المكان·

وكذلك كثير من الأشخاص يوجدون في مواضع ليست لهم، ولا تناسبهم، ولكن موقف الناس ذاته يتكرر مع الأشخاص كما الأشياء، استغراب، ثم تعود، ثم تبرير، وبعد ذلك تجميل يؤدي إلى التعزيز·

ولو وسّعنا نطاق التأمل سنجد أن إحدى الدول توجد دائمًا خارج حدودها الطبيعية، أي في خلاف موضعها الأصلي، بذرائع مختلفة، لا تعجز عن إيجادها بما يتناسب مع المقام في كل مرة، ويحدث بعد ذلك الأمر نفسه إذ يبدأ موقف بقية الدول بالاستغراب، ثم بالتعود، ثم بالتبرير، وأخيرًا التجميل·

(الدنيا تسير بالمقلوب)، هذا قول نردده باستمرار، لكني كنت أحمله على المجاز أكثر من الحقيقة· أما بعد أن رأيت هذه الصورة فأعتقد أن المجاز تطاير وأصبح هباء منثورا أمام واقع ينزل بأهله إلى الحضيض الأسفل، وأمام إنسان يرضى بأن يضع إنسانيته وكرامته وهامته تحت (الحذاء)· ليس بعد هذه الصورة الموجودة في الشبكة على المواقع المختلفة مجاز، ولا مجال بعدها لتأويل·

قد يقول قائل إن هذه المرأة تمثل نفسها فقط، أو أنها تمثل صرعة في عروض الأزياء، قد لا تجد قبولا أو استحسانًا فتندثر، وكأنها لم تكن، لذلك لا يجب تحميل الصورة أكثر مما تحتمل· لكني أعتقد أن هذه الصورة لا تمثل هذه المرأة فقط، ولا تمثل بنات جنسها فقط، بل تمثل الإنسان عامة، بذكوره وإناثه، ولها دلالة يجب ألا نغفلها، تتعلق بقيمة الإنسان في هذا الوقت·

ثم إن هناك سؤالا يطرح نفسه، هو: هل كانت هذه العارضة هي صاحبة فكرة (قبعة الحذاء) هذه؟ غالبًا ستكون الإجابة بالنفي، وسيكون هناك مصمم (عالمي) قتل جزءًا من وقته وتفكيره وهو يحاول ابتكار شيء لم يخطر على قلب بشر من قبل، فكانت هذه الصرعة، ولكن هل يكفي أن نقول إنها صرعة ونتجاوزها وكأنها لا تعني شيئًا؟ لا أعتقد أن هذا ما يجب أن يحدث؛ فهذه الصرعة تأتي في سياق معين، ولا تأتي خارج سياقاتها الحضارية والثقافية، ولا يمكن لهذه الصرعة ألا تتأثر -بوعي أو دون وعي- بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها إنسان الألفية الثالثة·

لا بد أن نقف مطوّلا أمام هذه الصرعة، وسندرك حينها أنها تمثل قيمة الإنسان في هذا العصر، سواء بقصد أو دون قصد، وهذا مدعاة لأن نفكر جديًا في محاولات استرداد قيمتنا الإنسانية، وتجديد شعورنا بها، قبل أن تصبح كل صرعة -مهما كانت حدودها- مقبولة·

التعليق الذي كان مرفقًا مع الصورة يقول إن هذه الصورة مأخوذة من عرض أزياء عالمي، ويدعو الناس إلى التعرف إلى آخر "موضة" نسائية، كي يعرفوا عقول النساء! فهل تمثل هذه الصورة عقلا موجودًا حقيقة إن كان كلامنا سيصل إلى العقول؟ من المؤكد أن أي إنسان -سواء كان رجلا أو امرأة- رضي بأن يلبس (حذاءه) على رأسه لا عقل لديه، ولكن المصيبة إن وجدت هذه الصرعة الخالية من العقل أبواقًا تؤيدها، وتباركها، وتثني على المصمم المبدع الذي ابتكرها· والخوف كل الخوف من قيام أصحاب مصانع الجلديات بإضافة قطعة إضافية لزوج (الحذاء) لاستخدامه لأغراض الزينة التي ستتنوع وتتعدد متجاوزة الشكل الأولي لهذه الصرعة· وقد كنت أخشى أن يوجدوا لنساء الخليج المحجبات، اللواتي لا يزلن متمسكات بغطاء الرأس (الشيلة) نماذج مصغرة من الأحذية لتزيين طرفيْ (الشيلة) بها، أو ردنيْ العباءة، كي لا يتخلفوا عن قافلة "الموضة" العالمية، ولكني اكتشفت بنقاشي مع طالباتي حول هذه الصورة أن هذه "الحركات" موجودة بالفعل، وأنها الآن أصبحت "موضة" قديمة، وهذا يدلّ على أن استخدامات (الحذاء) قد تدرجت حتى وصلت إلى قمة الرأس وكانت تلقى قبولا، ليس فقط من الشقراوات كعارضة الأزياء التي ظهرت في الصورة موضوع الحديث، إنما أيضًا من السمراوات اللواتي يشعرن بإعجاب فطري بأي شيء تفعله الشقراوات، حتى إن كان غير مناسب لهنّ·

لا أعلم إلى أين ستصل خيالات مبدعي هذه الصرعات، ومستقبليها، والمطبلين لها، واللاهثين خلف كل ما تهبّ به ريح الغرب، لكنني فكرت كثيرًا، في محاولة لتوقع ما ستتمخض عنه عروض الأزياء القادمة ويمكن أن يكون أشد وطأة مما عبّرت عنه هذه الصورة من واقع يهبط بالإنسان إلى ما تحت (الحذاء) فلم يسعفني الخيال، ومع هذا فإنني على يقين من محدودية خيالي في هذا الاتجاه، وسعة خيال الآخرين الذين لا يعنيهم أن يبقى الإنسان إنسانًا· 

*جامعة الإمارات

 sunono@yahoo.com

�����
   
�������   ������ �����
الأشقاء الأشقياء
القارئة الصغيرة
الامتلاء من أجل العطاء
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا
التفكير من أجل التغيير
تطوير العقول أو تغييرها
تطوير العقول أو تغييرها
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
الكبيرُ كبيرٌ دائمًا
إنفلونزا الطيور تعود من جديد
معنى التجربة
السلطة الذكورية في حضرة الموت
الطيور المهاجرة
"من غشنا فليس منّا"
كأنني لم أعرفه من قبل
ثلاثية الحضور والصوت والكتابة
المطبّلون في الأتراح
بين الفعل.. وردة الفعل
التواصل في رمضان
  Next Page

وطنية زعماء المعارضة:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
الإنسان، موقف!!:
سعاد المعجل
"رجل شجاع":
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
إلا الدستور
... وحتى الدستور!:
فهد راشد المطيري
مشاكل:
على محمود خاجه
الكتابة.. فن ومهارة:
علي سويدان
الأسطورة والنفط :
د. محمد عبدالله المطوع
ماذا يريدون من السعدون؟!:
المحامي نايف بدر العتيبي
مرور العاصمة.. والألفية الثالثة:
باقر عبدالرضا جراغ
من لأطفال فلسطين؟!:
عبدالله عيسى الموسوي
العم حمدان الرجل الصعيدي والتنمية الاقتصادية:
سعاد بكاي
مهندس كويتي قتله طموحه:
المهندس محمد فهد الظفيري
نورية الصبيح والتيارات الدينية:
بدر الفرج
السلام العالمي:
د. عبدالعزيز يوسف الأحمد
(إلا دستور بلادنا.. والكويت في مصر):
محمد جوهر حيات
حقيقة آخر أبريل..
بنانا التحتية "خرطي"... والغرقة قدرنا!:
خالد عيد العنزي*
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس:
د. فاطمة البريكي
مقالب في الأجواء:
فاطمة ماجد السري*
حتى تكون لحياتنا قيمة:
ياسر سعيد حارب
هيكل ولكن بضخامة جبل:
الدكتور محمد سلمان العبودي