يُخيل لبعض الناس أن الأعمال الإرهابية هي أعمال عشوائية، أو هي تعبير عن نقمة أو غضب أو سخط، يفقد معه أحدهم أو تفقد جماعة عقلها، هذا الأمر صحيح، إذا ظل التفكير محصورا في ظواهر الأمور، ولكنه غير صحيح إذا تخطينا الظاهر الى البواطن، أي الى دلائل التوجيه والسيطرة التي تقف وراء ما يبدو فوضى وعشوائية، بلا منطق يحكمها·
وتشير الاعترافات التي تنشر بعد زمن يطول أو يقصر، وبخاصة من أفواه رجال الاستخبارات عن مختلف الجنسيات، الى أن كل ما تصوره الناس فوضى وعشوائية، كان وراءه عقل مدبر أو عقول بالأحرى، استطاعت شق قنوات للغاضبين والفاقدين لعقولهم، ولمجموعة متنوعة من أنصاق المتعلمين والانعزاليين، لتجري أفعالهم وأفكارهم في مجراها، وتقدم أهدافها البعيدة والقريبة فكأن الإرهابيين في هذه الحالات أشبه بكلاب صيد تنطلق وراء فرائسها متوهمة، أنها تصطاد لنفسها، بينما هي في الحقيقة تصطاد لغيرها·
حين قيل لعتاة الإرهابيين في أفغانستان إنكم تدربتم على تفخيخ السيارات وتفجير المباني والأسواق، وتمولتم بمليارات المخابرات الأمريكية، في الثمانينات، برر بعضهم الأمر بتقاطع المصالح، ولكن حين يُجري الإنسان جردة لحساب المصالح المزعومة، يجد أن لا مصلحة تمت خدمتها إلا مصلحة أصحاب المخابرات الأمريكية·
واليوم في الوقت الذي تقوم فيه هذه الجماعات بما تقوم به من قتل وتدمير في العراق مثلا، ضد الناس والحجارة، تزعم أنها في حرب مع أمريكا والاحتلال· ولكن جردة سريعة لطبيعة هذا الإرهاب الذي يسعى حثيثا لشق صفوف العراقيين وإشعال حروب طائفية ودينية ومذهبية في المنطقة كلها لا في العراق وحده، تظهر أن حساب المصالح سيظهر الرابح نفسه من الحملة الأولى في أفغانستان لا غيره·
أمر محير بالنسبة للكثير من العقول، ولكن الحيرة تنجلى إذا تخلينا عن استخدام الفكر التبسيطي القائل غير معقول أن "يجاهد" هؤلاء ضد الأمريكان، ثم يقال إنهم في خدمتهم· هذا تبسيط لا يدرك أهم قاعدة من قواعد لعبة الشطرنج:أن تجعل الخصم يحرك أحجاره، أي يقوم بأفعاله، وتفتح الطريق أمام خيوله وأفياله وجنوده، لتلتهم كل شيء في نهاية المطاف، إن لاعب الشطرنج الماهر، يفعل هذا دائما، ويتصور خصمه أنه يتحرك بكامل إرادته وحريته·
في هذه اللعبة، لعبة الإرهاب، التي تنهمك فيها عادة أجهزة المخابرات العصرية، ما يحدث ليس أن هناك خصما طبيعيا، بل خصم مصطنع اخترعه اللاعب الماهر وزوده بما يكفي من الأوهام والفتاوى، وجعله ممثلا لأمة كاملة، ليسحق هذه الأمة، لا هذا "الممثل" الأبله· فالهدف ليس هذه المجموعات التي توهمت أنها قادرة على تغيير خريطة الكون، بل هي الأداة، وسيحافظ اللاعب الماهر على أدائه بقوة أبلغ وأقوى مما تتصور هذه الأداة نفسها· إنها ليست لاعب شطرنج غبي فقط، بل وأعمى أيضا يصلح أن ينقل من ميدان الى ميدان كما حدث ويحدث الآن· |