ليس هذا العنوان من قبيل التلاعب اللفظي، ولا العبث اللغوي، إنما هو عنوان مقصود ومعبر عن فكرة موجودة، وهي فكرة الإنجاز غير المجدي؛ فالتقدم لا يكون إلا إلى الأمام، ولا يمكن أن يكون إلى الخلف، ولكن إذا كان الإنجاز مبهرًا وبرّاقًا وهو في الوقت ذاته غير مجدٍ فإنه يسمح لنا بالجمع بين كلمتي التقدم والوراء في عبارة واحدة، كما في هذا العنوان·
إن كثيرًا من الأفراد والمؤسسات يضعون نصب أعينهم أهدافًا محددة، إما قصيرة المدى أو بعيدة المدى، يسعون إلى تحقيقها· وبغضّ النظر عن طبيعة هذه الأهداف أو أنواعها، المهم - في رأيي- أن يكون الهدف حاضرًا في ذهن المقدم على عمل ما، وأن يكون في تقييمه الشخصي، وفي النظرة العامة للمحيطين به مقبولاً على الأقل، إن لم يكن هدفًا عظيمًا، يستحق بذل الوقت والجهد وكل الإمكانيات المتاحة لتحقيقه· وهذا هو ما يدفع الأفراد والمؤسسات والمجتمعات التي تضمهم نحو التقدم إلى الأمام·
وفي حالة عدم وجود هدف محدد، أو هدف حقيقي يضعه الفرد نصب عينيه أثناء عمله على مشروع ما، فإن المشروع يفقد قيمته، ويصبح مجرد ادعاء من القائم به بأنه يقوم بشيء ما، وأنه يؤدي عملاً، بغضّ النظر عن فائدته له أو للمجتمع من حوله، المهم فقط هو أن يضع في أجندته في نهاية العام أنه أنجز شيئًا·
والأمثلة على حالات التقدم نحو الوراء كثيرة، وسأتوقف عند بعض الحالات الفردية التي يمكن أن يٌقاس عليها كثير مما لا يتسع المجال والحيز المتاح في هذا المقال لذكره·
فمثلا يسعى الكثير من الأفراد إلى تسجيل الدورات الصيفية في المجالات المختلفة، ومع أن عددًا كبيرًا منهم يسعى لذلك برغبة صادقة في أن يستفيد ويتعلم شيئًا جديدًا، إلا أن فئة غير قليلة تسعى فقط للحصول على الشهادة التي ستُمنَح في آخر الدورة، دون أن يهمها إحراز معرفة حقيقية بالمادة التي تشير إليها هذه الشهادة·
إنه تقدم، وإحراز لشهادة إضافية، ولكن دون جدوى، فكأن صاحبها يعود للوراء، لأنه أنفق ماله، ووقته، وشيئًا من جهده، دون أن يحقق فائدة تُذكر·
ومن أمثلة ذلك أيضًا، وربما تقترب الفكرة من فكرة المثال السابق ولكن على نطاق أوسع، وبخطورة أكبر، ما يقوم به بعض الناس ممن غاب عنهم الوازع الديني والرادع الذاتي والفهم الواعي لحقائق الأمور، إذ يقومون بـ(شراء) الشهادات العلمية، ابتداء من الثانوية العامة حتى الدكتوراه، دون خجل ودون إحساس بفداحة الذنب المرتَكَب، ودون وعي بما سيترتب عليه من آثار ونتائج سلبية، إذ ينصبّ تفكيرهم على أمر واحد فقط، هو ظنهم أنهم يتقدمون بفعلهم هذا إلى الأمام، ولكنهم لا يدركون أنهم يتقدمون إلى الأمام شكليًا فقط خطوة واحدة، أما في الحقيقة فيتراجعون إلى الوراء خطوات؛ فما فائدة الحصول على شهادة دون معرفة؟ حتى إن كانت هذه الشهادة هي أعلى ما يمكن إحرازه من درجات علمية، إذ ما جدوى وضع حرف (دال) أمام الاسم إذا كان المستوى الفكري لا يمثل هذه (الدال)·
إن اللجوء إلى مثل هذا الفعل لا يشير فقط إلى ضعف ثقة المُقْدِم عليه بنفسه أمام الآخرين، إنما يعزز عنده ضعف ثقته بذاته وشعوره بعدم امتلاكه القدرات والطاقات التي تخوله لنيل هذه الدرجات العلمية بجده واجتهاده، فيلجأ إلى الوسيلة التي يراها أسهل وأيسر، ولا تتطلب منه شيئًا سوى وضع يده في جيبه·
ومن الأمثلة الأخرى التي تندرج في فكرة التقدم نحو الوراء أيضًا الحرص العام على العناية بكل شيء شكلي، وذلك على مستوى السلوك الفردي أو المؤسساتي أو المجتمعي، دون أن يقترن ذلك بالحرص على أن يعبر هذا التقدم الشكلي عن تقدم مضموني جوهري· وهذه إحدى مصائبنا الكبرى؛ فقد أصبح الاهتمام بالشكل علامة مميزة لشبابنا وشاباتنا، ويمكن النظر -على سبيل المثال- إلى أي شاب في أي مكان، سواء في الجامعة، أو في الشارع، أو في المكتبة، أو في مجمع تجاري، أو في مؤسسة حكومية مراجعًا أو موظفًا، وسنجد أن الجامع المشترك بين شبابنا عمومًا هو الاهتمام بشكلهم الخارجي -مع تفاوت بينهم في الاهتمام بالجوهر أو المضمون- فهم يهتمون كثيرًا بنوعية القماش الذي يلبسونه، وبالعطر الذي يجب أن تلتقطه الأنوف على بعد أمتار، وبجهاز الهاتف النقال الذي يجب أن يكون آخر ما طُرِح في الأسواق المحلية، وربما العالمية·· وهلم جرا
والأمر ذاته يُقال على الفتيات اللواتي يلهثن وراء (الماركات)، وينفقن ببذخ عليها، ويحرصن على متابعة أحدث صيحات (الموضة)، ويرون في ذلك تطورًا ومواكبة للعصر، وقد يكون كذلك فعلاً، ولكنه تطور غير مفيد أو مجدٍ؛ فالعصر عصر انفتاح معرفي شامل، تُقَدَّر قيمة الفرد فيه بغناه المعرفي وتمكنه المعلوماتي، وبمقدار ما يمكنه تحقيقه أو إضافته أو حتى فهمه وإتقانه على صعيد العلوم والمعارف التي تتفجر بين لحظة وأخرى، وهو ما يمثل التقدم الحقيقي نحو الأمام· ولكننا إذا تأملنا الصورة التي تقدم ذكرها عن فئة من شبابنا وشاباتنا سنجد أنها تمثل فئة تهتم بكل ما يحقق تقدمًا شكليًا، ولا تكاد تولي عناية تُذكر إلى ما يعبر عنها فكريا وثقافيا وعلميا، مما يجعل هذا التقدم يبدو وكأنه يسير في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي يسير نحوه العالم من حولنا·
ويبدو لي أن أكثر ما يعطّل حركة التقدم الحقيقي نحو الأمام -على بعض الأصعدة- ويجعلها تبدو عكسية نحو الوراء -في الوقت الذي يظنّ الكثيرون أنها تتحرك نحو الأمام انبهارًا بالمظهر الخارجي الأخّاذ الموهم بالحركة التقدمية- هو الالتفات إلى القيمة الشكلية الزائفة، وعدم الاهتمام بالقيمة الجوهرية الحقيقية لبعض الأمور الهادفة والبنّاءة، مهما بدت صغيرة وشخصية· وبمجرد أن يبدأ الالتفات الحقيقي لها لا بد أن تحدث نقلة نوعية في طريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا، ولا بد أن ينعكس هذا إيجابًا على منجزاتنا على مستويات أخرى·
جامعة الإمارات
sunono@yahoo.com |