أصبحت هذه الكلمة متداولة عالميا للإشارة الى العصابات ذات التنظيم الحديدي والطاعة المطلقة والتماسك بين أعضائها المجرمين· ويرجع أصل الكلمة الى جزيرة صقلية التي كانت مستقلة وكان لها ملوك، وتكوّن سكانها من خليط من اليونانيين والعرب ومهاجرين من أسبانيا بالإضافة الى عناصر من أقاليم إيطالية أخرى عاشت في ظل حكم عربي قرابة قرنين، ثم استولي عليها النورمانديون وكانوا قوما سُمَحاء وأذكياء وجدوا في التنوع العرقي والديني واللغوي مصدر قوة لملك حسن السياسة، ولا يكون مصدر ضعف إلا إذا استبد الملك وانحاز لفريق ضد الآخرين· ويكفي مثالا لهذا الجو أن الملك النورماندي روجر الثاني موّل رحلة الجغرافي العربي الأشهر الادريسي وهذا ما حمله على عنونة كتابه ــــ الذي ما زال المرجع الأساسي لدراسة أحوال أفريقيا بالذات في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ــــ الكتاب الروجري· ولم تعمر أسرة النورمان كثيرا، وأتت نظم التوارث السائدة في الأسر المالكة الأوروبية الى حكم صقلية بنبلاء ألمان تعاملوا بفظاظة مع السكان وفرضوا الخضوع لكنيسة روما الكاثوليكية وأشاعوا الظلم والفساد، وهذا ما حّمل كبار ملاك الأراضي من أهل الجزيرة الى الاستعانة بشباب مسلح ومدرب لحماية مصالحهم في مواجهة عدوان السلطات ومن جاء في ركابها من أهل الشمال الطامعين في أراضي أهل البلاد·

وبعد أن غزا نابليون إيطاليا وحجّم سلطان البابا الدنيوي ودفع في اتجاه حكم مركزي كفء تحسنت أوضاع ملاك الأراضي بصفة عامة "أصليين ومهاجرين" وأخذوا يستغنون عن حرسهم الخاص ويعتمدون على السلطات في استغلال الفلاحين، وكانت تلك لحظة الميلاد الحقيقي للمافيا، منذ تحول الشباب المنظم المسلح الى مدافع عن الفلاحين لا يأبه بالسلطة وقوانينها وهذا ما فرض عليهم السرية الكاملة، تجمعوا في أطر العلاقات العائلية ورتبوا كل جماعة ترتيبا هرميا يمارس حملة كل رتبة سلطة مطلقة على من يليهم ويخضعون بلا تردد لأوامر الرتبة التي تعلوهم وكانت السرية الكاملة وطاعة الأوامر والتزام الصمت الكامل في أي حديث يتصل "بالعائلة" ويموت "المفايوزو" أي عضو المافيا ولا ينبس ببنت شفة، بل إن واقعة الانتماء ذاتها لا يجوز الجهر بها ولو في مواقع البطولة وإنما البطل من يموت دون أن يفتح فمه· ولا تعترف المافيا بالقوانين السائدة وتجرم من ينفذونها، ولكنها تحرص كل الحرص على قواعد التنظيم والنشاط التي سنتها لنفسها، فالمافيا بالتعريف خارجة على القانون ولكنها شديدة الالتزام بقوانينها وقيمها الخاصة·

وكما هو معروف كانت الهجرة من أوروبا الى أمريكا حتى منتصف القرن العشرين في معظمها هجرة فقراء جاءت من المناطق الفقيرة في أوروبا مثل إقليم الأندلس في أسبانيا وجنوبي إيطاليا وجزيرة صقلية، وهكذا هاجرت جماعات من المافيا منذ أوائل القرن التاسع عشر، وفي نصفه الأخير بنحو متزايد، وهكذا ظهر نشاط المافيا أول الأمر في نيويورك ثم تكوّن الحي المعروف باسم "إيطاليا الصغيرة" وكانت مجالات الجريمة التي اشتغلت بها المافيا هي فرض إتاوة الحماية على المحلات والمقاهي والبارات في الأحياء الشعبية "أعمال البلطجة"، الإقراض بفوائد بشعة وقتل من لا يسدد القرض والفوائد، المراهنات على الخيل ثم على الرياضيين والفرق الرياضية، إدارة نوادي قمار سرية، ثم انخراط معظمها في تجارة المخدرات وكذلك القتل بأجر يدفعه طرف غريب عن المافيا، وتستراً على أرباحها غير المشروعة اشتغلت بمقاولات البناء والتشييد حيث العمالة متغيرة والحسابات غير منتظمة مما يتعذر معه التعرف على المصدر الحقيقي للربح، وكان على مصلحة الضرائب أن تقنع بما يدفعونه من ضريبة عن رأس المال والربح·· الخ المعلنة·

ولكن إثراء من بقوا على الحياة من زعماء المافيا وتجمع ثروات طائلة لدى معظمهم دفعهم الى الإسهام في دخول عالم المال والأعمال، ثم كانت الأجيال الثالثة والرابعة من العائلات قد ولدت في أمريكا تجيد لغتها وتعرف أساليب حياتها فتخالطها في النوادي والمجتمعات والجمعيات الأهلية، وأصبح لزعماء المافيا دور ملموس في تمويل الحملات الانتخابية وبالتالي التأثير في السلطات ولم يبق من تقاليد المافيا إلا قاعدة الصمت المطلق عما تقوم به المافيا ثم بعض المظاهر الفوكلورية والقصص والأفلام السينمائية،ولهذا شاعت كلمة المافيا بالمعنى الواسع الذي ذكرناه في البداية وللحديث بقية·