تلقى أحداث أوكرانيا ضوءا باهرا على ما حدث في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق غداة انهياره، لقد كانت دعاية الغرب ضده تبرز بنوع خاص افتقاد الديمقراطية وإهدار حقوق الإنسان، حتى ما كان يوفره الاتحاد لشعوبه من خدمات مجانية في مجالات التعليم والصحة والإسكان·· إلخ، فكان في نظر أعدائه في الغرب تدخلا في ما يأكل المواطن ويشرب وأين يسكن·· إلخ وكان مشروطا بالطاعة المطلقة للحكام، ومن هنا اخترع للنظام السوفييتي باسم جديد هو "الشمول" التي يحلو لبعض المثقفين عندنا أن يصفوا بها عهد عبدالناصر والذي قضى على ليبرالية عهد فاروق، ولكن ما حدث بالفعل في الجمهوريات وسقوط حكم الحزب الشيوعي السوفييتي هو أن شعوبها فقدت حقوقها الاجتماعية ولم تكسب أي حقوق سياسية·
لقد استولى على السلطة في كل منها مجموعة من كوادر الحزب الشيوعي القديمة المتمرسة في إصدار الأوامر للمواطنين الذين ألفوا طاعة الحكم، ولم يكن ينتظر من الحكام (الجدد أحيانا) غير ذلك، فأين تعلموا الديمقراطية؟ وكان طبيعيا أن يستخدموا السلطة المطلقة في تحقيق المصالح الشخصية، وهكذا أصبح الفساد سمة متأصلة فيهم تأخذ أشكالا متعددة من اقتضاء المال من المواطنين نظير تأدية ما هم مكلفون به بحكم وظائفهم الى الاستيلاء على موارد الدولة ووحداتها الإنتاجية الكبيرة تحت شعار الخصخصة، وهكذا ظهرت فئة الأقلية بالغة الثراء التي تسير بالفعل الحياة السياسية·
وقد نبهنا ما يجري في روسيا الاتحاد وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفييتي الى ما جرى ويجري في كثير من بلدان العالم الثالث، ولاسيما في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، فحين تتجمع الظروف المواتية لإسقاط حاكم مستبد فاسد والمناداة بالديمقراطية يحدث في المواقع من حكم فرد الى حكم فرد آخر يرى الناس فيه رجل نزاهة وحزم وقدرة على تطهير البلاد من الفساد، ويفسر الناس ما كان نهرو يكرره "السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد فسادا مطلقا"·
ولذلك فإن الديمقراطية لا تتحقق إلا إذا كان ثمة "بديل ديمقراطي" يعرف ثقافة الديمقراطية ويطبق آلياتها في منظماته وعلاقاته مع غيره من الأحزاب والاتجاهات وكذلك علاقته مع الجماهير الخالية من التعالي وطلب الطاعة، وما يحسم بأمر استقرار الديمقراطية في المجتمع هو التخلص من الفكر "الأبوي" (البطريركي) الذي يدور حول الحاكم الصالح العادل ليصبح الزعيم والقائد الملهم القادر على حل كل المشكلات، وما زال هذا الفكر سائدا في الوطن العربي وإن تستر أحيانا وراء رايات ديمقراطية، سقوط الحاكم المطلق ونظامه شرط ضروري ولكنه غير كاف لمولد نظام ديمقراطي، والشرط الثاني هو أن تتخلص الجماهير من النزعة الأبوية ويؤمن أنها مصدر السلطات وليس هذا "البطل" أو ذاك، وأن تفرز بديلا ديمقراطيا أو أكثر·
إنها مسيرة وعرة وهذا ما يدعو الى الإسراع بالسير فيها والدأب في مسعانا لاجتيازها· |