| احتل إعلان بالألوان الجميلة والأنيقة صفحة كاملة غلفت الصفحة الرئيسية لإحدى الصحف اليومية، الإعلان يصور شابا بكامل أناقته العربية، يجلس فوق مقعد وثير وفخم، على يمينه طاولة تتوسطها "فازه من البورسلان" الفاخر مليئة بالزهور الحمراء، وأمامه نافذة تزينها الستائر الحريرية المقصبة، ويمتد تحتها السجاد الإيراني الفاخر والمنقوش·
مشهد مليء بالفخامة والثراء، لكنه قطعا ليس في المكان المناسب فالنافذة الزجاجية الواسعة تطل على مشهد مقدس يضم الكعبة والطائفين حولها، والإعلان يدعو الراغبين بالاستمتاع بأجنحة فندقية فاخرة بأحجام مختلفة، مع روعة في التصميم الداخلي وفقا للاحتياجات، مع مركز تسوق فاخر وتشكيلة واسعة من المطاعم، علما بأن هذه الأجنحة الفندقية تطل مباشرة على الحرم المكي الشريف·
لقد سيطر الغلو في الرفاهية الدنيوية أخيرا على روحانية وشفافية المشهد والوقوف بين يدي الخالق في بيته العتيق وبصورة أصبحت تتطلب تدخلا قبل أن يتحول موسم الحج والعمرة الى ساحة للتنافس التجاري والفندقي والترفيهي بدلا من أن يكون مناسبة للتجرد من ماديات الحياة وترفها، ومشقة يرجو من ورائها الحاج أو المعتمر التقرب الى الله، والوقوف بين يديه سواسية كأسنان المشط·
من المؤكد أن هنالك متغيرات كثيرة طرأت على حياة البشر ووفرت راحة في شعائر المناسك والتعبد بصورة جعلت الحج والعمرة أسهل بكثير وأقل مشقة عما كان عليه الأمر في السابق ولا أحد يعيب على الناس أن يستفيدوا مما وفرته الحياة الحديثة من تسهيلات سواء في مواسم العبادة أو غيرها، لكن الذي يحدث الآن سواء في مكة أو في المدينة من إفراط في الرفاهية وبذخ في المباني والفنادق والتجهيزات يكاد يخرج عن حدود المعقول والمفروض في أماكن عبادات وتأمل وصلوات·
لقد جاءت الرسالة المحمدية بتشريع رباني مقدس، وأحدثت ثورة اجتماعية أسقطت نظاما طبقيا ظالما، وساوت بين الفقراء المستضعفين، والأغنياء المترفين، ولقد جاهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) جهادا عظيما لكي يحقق مجتمعا عادلا بمحو الفوارق الطبقية والتمايز الاجتماعي، وهو أمر لم يكن يسيرا ولا سهلا، حيث وقفت ارستقراطية قريش وحاربت الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما ملكت من أدوات وقوة، ولقد روى يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد جلس المستضعفون من أصحابه: عمار بن ياسر وخباب بن الأرت، وصهيب بن سنان، وبلال بن رباح، وأبو فكيهة وعامر بن فهيرة وأشباههم من المسلمين فتهزأ قريش منهم ويقول بعضهم لبعض: هؤلاء جلساؤه قد منَّ الله عليهم من بيننا·· انتهى"
لقد حملت الدعوة المحمدية دعوة لسلوك اجتماعي قائم على العدالة والسواسية، ويروي لنا الدكتور حمودة العودى في كتابه "المدخل الاجتماعي في دراسة التاريخ والتراث العربي" وتحت فصل بعنوان "تناقضات المجتمع المكي" يروي لنا في وصفه للمجتمع الذي حاربه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيقول: "إن الدعوة وصاحبها كانت محكومة الى حد كبير بطبيعة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية السائدة، ولم تكن مجرد تعبير عن مفاهيم دينية وغيبية مثالية بحتة منبثقة عن مفاهيم مجردة ومنفصلة عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي السائد، لقد كانت التعبير المباشر الى حد ما وبشكل ما عن طبقة اجتماعية مسحوقة من عبيد وفقراء وصعاليك، فلم يكن الخلاف والعداء والمقاومة الشرسة التي لقيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأتباعه من قبل الارستقراطيات السياسية والاقتصادية في المجتمع المكي القديم هو عداء وخلاف ديني بقدر ما أنه كان خلافا وتناقضا اجتماعيا وطبقيا في الأساس"·
لقد عاد ارستقراطيو مكة من جديد بعباءة المقاولين ورجال الأعمال الذين أصبحوا يسرفون في الإصرار على تمييز فئة من الحجيج أو من المعتمرين عن سائر الفئات الأخرى، وأصبح منظر المقعد الوثير المطل على ساحة الحرم المكي الشريف متناقضا مع صورة المتأبطين لمتاعهم، والجالسين في صحن الحرم أو سطحه والذين يشكلون غالبية الوافدين الى مكة، مقارنة بالمتمتعين برفاهية الفنادق الفخمة من أرستقراطيي مكة الجدد، وهو أمر ولا شك يحمل رسالة خاطئة ومناقضة لرسالة الرسول (صلى الله عليه وسلم)·
suad.m@taleea.com |
