في صباح يوم الثلاثاء الموافق 28/3/2006 وبينما أتصفح جريدة الجارديان البريطانية لفت انتباهي مقال للكاتب دينكان كامبل بعنوان "جنود يفرون لكندا تجنبا للخدمة في العراق"· يقول الكاتب في مقاله أن مئات من جنود الجيش الأمريكي يفرون هربا، عابرين الحدود إلى كندا مطالبين باللجوء السياسي، وذلك حتى لا يعودوا للخدمة في العراق، نظرا، وكما جاء على لسانهم، للانتهاكات القانونية الكثيرة التى يرتكبها الجيش الأمريكي هناك· الحكومة الكندية اليوم تنظر في قضية جنديين من هؤلاء تقدموا بطلب اللجوء السياسي، وهناك مئات من الجنود، سواء الموجودون في كندا أو الذين مازالوا في وطنهم، يراقبون باهتمام بالغ، كما يذكر الكاتب، الإجراءات التي سوف تتخذها الحكومة الكندية بشأن قضية هذين الجنديين· في الوقت نفسه هناك حوالي عشرين طلب لجوء سياسي آخر تم تقديمها للحكومة الكندية من قبل جنود من الجيش الأمريكي، وهناك حوالي 400 جندي فروا للعيش في كندا من أصل تسعة آلاف جندي فار من الخدمة منذ بداية غزو العراق في سنة 2003· يقول أحد الجنود الفارين لمراسل جريدة الجارديان إن الكثير من الجنود الأمريكيين الذين خدموا في العراق متألمون بسبب موت الكثير من المدنيين العراقيين الذين لا ذنب لهم سواء أنهم مواطنون عراقيون، ومتألمون كذلك بسبب القصف الشديد الذي تتعرض له كثير من الأحياء السكنية المدنية من دون ذنب ترتكبه·
مقال آخر مرتبط مباشرة بما ذكر في جريدة الجارديان قرأته على أحد المواقع في الشبكة العالمية يلقي الضوء على الضغوط الممارسة من قبل الحكومة الأمريكية على المعالجين النفسيين وخبراء الصحة العقلية الذين يعالجون أعدادا كبيرة من الجنود الذين تأثرت صحتهم العقلية والنفسية نتيجة الحرب· عنوان المقال كان "بعض الجنود الذين أعيدوا للعراق مرضى عقليين"· تقول السيناتورة الأمريكية باربرا بوكسر، والتي اقتبس المقال بعض من تصريحاتها، "لقد سمعنا بعض التقارير تقول إن هناك تشجيعا وحثا للأطباء على عدم العمل على تحديد الأمراض العقلية المنتشرة بين أفراد الجيش، وإن كانت واضحة بدرجة كبيرة وإن هناك ضغطا يمارس على الأطباء للتقليل من حجمها وآثارها"· بمعنى آخر هناك ضغط يمارس على الأطباء من قبل القيادات العسكرية الأمريكية من أجل التقليل من حجم التأثر العقلي والنفسي للجنود، من أجل تمرير أوراق فحصهم على أنهم أصحاء نفسيا وعقليا وبأن بإمكانهم العودة للخدمة في العراق· في المقابل، الأطباء والمعالجون النفسيون في وضع لا يحسد عليه، كما يذكر المقال، لأن مخالفة الأوامر العسكرية ورفض الانصياع لها، حتى إن كانت الحالة التي أمامهم تفتقد تماما الأهلية العقلية التي تمكنها من اتخاذ القرار السليم أو حمل سلاح، يهدد مكانتهم الوظيفية وتطورهم المستقبلي في عملهم· فعدم الانصياع يعني التضرر الوظيفي الذي قد يصل إلى الإقالة والحرمان من العمل·
لهذين المقالين وما يحتويانه من معلومات صادمة تداعيات أخلاقية واجتماعية خطيرة ومقلقة، فهرب هذا العدد من الجنود يدل على قناعتهم بعدم مصداقية وزيف الهدف الذي من أجله زجوا في هذه الحرب، كما يدل على وصولهم للإيمان بأن خوضهم هذه الحرب لا يخدم مصلحة شعبهم أوبلدهم، ولكن يخدم مصلحة فئة محددة لا تحكمها سوى مصلحتها الشخصية، وأن ما يحدث في العراق لا يمكن أن تتحمله نفس بشرية سوية· لذلك فضل هؤلاء الجنود الهرب من وطنهم وأهلهم فرارا من العبء النفسي الذي أرهق أرواحهم، والذي شعروا به نتيجة قيامهم بسلوكيات متعارضة مع القيم والمبادئ الإنسانية ومع قيمهم الشخصية· أما فيما يتعلق بإرسال جنود يعانون من أمراض نفسية إلي ساحات القتال في العراق، فهذه قضية لا تشكل خطرا فقط على حياة هؤلاء الجنود، ولكنها تشكل خطورة كبرى على حياة المدنيين من الشعب العراقي، بمن فيهم من النساء والأطفال· فهؤلاء الجنود عادة ما يكونون مدججين بأسلحة خطرة وفتاكة، ولديهم السلطة لاستخدامها في أي وقت· ولا تكمن الخطورة هنا في السلاح في حد ذاته، ولكن في الأهلية العقلية للجندي المستخدم لهذا السلاح· إحدى الدراسات التي نشرت في دورية نيوأنجلند الطبية في 2004 أكدت في نتائجها أن %14 من الجنود و%28 من المارينز العائدين من العراق اعترفوا بمسؤوليتهم في قتل الكثير من المدنيين، وهؤلاء جنود من المفترض أنهم يتمتعون بصحة عقلية جيدة، فكيف سيكون الوضع إذاً في حال إرسال جنود يفتقدون أصلا للصحة العقلية·
إن سياسة إرسال جنود لا يتمتعون بالأهلية، إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الاستهتار الكبير من قبل الإدارة الأمريكية، ليس فقط بحياة هؤلاء الجنود وصحتهم العقلية، ولكن، وهذا هو الجزء الأخطر، بحياة الأبرياء من الشعب العراقي وحقهم في التمتع بحياتهم · فإذا كان تعداد الموتى اليوم من المدنيين العراقيين تجاوز المائة ألف قتيل، فإن هذا العدد حتما سيتضاعف على أيدي هؤلاء الجنود الموتورين عقليا، وستضاف هذه الجريمة إلي تعداد جرائم الحرب الأخرى غير المحصاة والتي ترتكبها إدارة الرئيس بوش ضد العراق والعراقيين· فضلا عن ذلك، من المتعارف عليه علميا واجتماعيا، وما تقره كل المواثيق الدولية، إذا كان لهذه المواثيق أي اعتبار اليوم، كما تؤكده كل الأديان السماوية، أنه متى فقد الإنسان أهليته العقلية لأية سبب من الأسباب، فإنه قانونيا لا يسمح له باتخاذ أي قرار متعلق بحياته أوحياة الآخرين، وأنه يجب أن يكون هناك شخص آخر مسؤول عنه مسؤولية كاملة· من الواضح في حالة هؤلاء الجنود أن الإدارة العسكرية الأمريكية تولت هذه المسؤولية نيابة عن ذويهم، وأن قرارات إعادتهم للعراق، اتخذت كما يبدو، لخدمة مصلحتها الشخصية، بحكم فشلها في عملية استقطاب جنود جدد يحلون محل من ماتوا أو هربوا· ويبدو واضحا أيضا أن هذه الإدارة غير آبهة لا بحياة ولا بحقوق جنودها، سواء كانوا مرضى عقليين أو جنود عاديين، ولا هي في الوقت نفسه آبهة بحقوق العراقيين وحياتهم· المهم بالنسبة لهذه الإدارة أن يكون هناك من يستطيع حمل السلاح ويحقق أهدافها، حتى ولو بشكل جنوني·
* جامعة الامارات |