نسمع كثيرا تعبير "الإرهاب الفكري" كتهمة توجه إلى بعض المتحدثين والخطباء والكتاب، أو توجه أحيانا إلى من يقيمون دعوة أمام القضاء ضد كاتب أو كتاب· ما هي متضمنات هذا التعبير؟ إننا حتى الآن نسمع بالإرهاب المادي، أي قتل الناس من دون وجه حق، وتخريب الممتلكات، وخطف الطائرات، ولكن الحديث عن "الإرهاب الفكري" لا يتم تفصيله وتصويره كما يتم تفصيل وتصوير ذلك النوع الأول· هنا لا عدسة تصوير ولا فيلماً ولا ضحايا ولا حرائق ولا خرائب، بل كلام في كلام، فكيف يكون الكلام إرهاباً؟
إنه يكون كذلك بوسيلتين، الأولى المطالبة بمنع كاتب أو متحدث من حقه في الكلام بحجة المروق الديني أو الخروج على عادات أو أعراف أو تقاليد، أو لمجرد مخالفته لما يقوله المطالب بالمنع، والثانية تحريض الناس أو السلطة على المخالف، وحثهم على قطع لسانه أو رقبته·
هذه التهمة إذن، وبخاصة إذا تدعمت باغتيال المخالف، معنويا (منعه من الكلام ومحاصرته) أو باغتياله فعلاً (بالقتل والتمثيل بجثته) ليست كلاماً في كلام، بل هي من حب الممارسة الإرهابية، التي تبدأ بالكلام ثم تنتهي بالأفعال·
الكثير من الناس يستهينون أحياناً بهذا النوع من الإرهاب، ويقللون من شأنه، ولكنهم بعملهم هذا يغفلون عن الكيفية التي تفعل فيها خمائر الإرهاب الفكري فعلها، فهي تشبه إلقاء بذور شريرة في أرض خصبة، ولكننا نعرف أن الناس ليسوا أرضاً خصبة لمثل هذه البذور، فكيف يتسنى لها أن تنمو وتصبح أشجاراً وغابات؟! إن هذا يتم بتهيئة الأرض، أي نفوس الناس، والتهيئة الملائمة للفكر الإرهابي، هي تجهيل الناس، وقطع سبل المعرفة عليهم، ومنعهم من الوصول إلى أي فكر يختلف عن الفكر الإرهابي الذي يروجه، أو بمجرد إخفاء المعلومات عنهم، أو تشويهها بالإشاعة والنميمة، وهي أكثر الوسائل انتشاراً·
وقديما قيل إن "الخير يخص·· والشر يعم" أي أن من طبائع البشر نشر أخبار الشر والتشويه والاهتمام بها، وعدم الاهتمام بنشر أخبار الخير والصلاح إلا في النادر من الأحوال·
تهيئة الأرض إذن، بالتجهيل، أي تغييب العلم ومناهجه، وتشغيل آلات الإشاعة والنميمة، وقطع طريق معرفة الرأي الآخر، أو الآراء الأخرى، وحظر التعدد والاختلاف الذي هو رحمة، هي من مميزات زارعي الإرهاب الفكري، وحاصدي ثماره المرة، ويمكن أن يكتشفها أي إنسان فور أن يشاهد من يحاول إسكات خصمه ولو "بطفاية سجاير"، أو من يزعم أنه الناطق باسم الذات الإلهية، وتحت هذا الزعم يدعو إلى ما يحلو له من زندقة بلا حسيب ولا رقيب ومنها استحلال الحرمات والاستحواذ على الخيرات، والتبرعات، واغتيال الناس باللسان إذا كان ضعيفا وباليد إذا تمكن وتسلط· |