تختلف تقديرات عدد سكان القاهرة بين 9 ملايين (داخل الحدود الإدارية للمحافظة) و18 مليونا "القاهرة الكبرى بما أكلته العاصمة من المحافظات المحيطة بها"· وكلها "تقديرات" لأن التعداد الفعلي يجري مرة كل عشر سنوات (1966-1976 2006...) ومعظم هذه التقديرات تصدر عن جهات حكومية لم تشتهر بالدقة وأثرت حتى على الأوساط الجامعية· وأعلى التقديرات الشائعة مبالغ فيه من قبل الذين ما زالوا يتحدثون عن الانفجار السكاني، وفي غيبة نتائج تعداد وتحديد واضح لما يعد جزءا لا يتجزأ من العاصمة ليس في الوسع إلا الاستناد لرقم وسط ما دمنا لسنا بصدد اتخاذ قرار ولنقل 12 مليون نسمة، وهو ما يعادل تقريبا %17 من إجمالي سكان مصر، وهو يتجاوز مجموع سكان 6 دول أعضاء في الجامعة العربية·
وما نعنيه هنا هو واقع أن هذه الملايين محرومة تماما من أي مساهمة في تدبير شؤون المدينة، حتى أولئك الذين يدفعون الضريبة العقارية أو رسوم النظافة ليس لهم أي صوت في فرض أيهما أو تحديد سعرها، ومن الناحية الرسمية يحكم العاصمة "محافظ"، وهو تعبير منقول عن اللغة التركية (رغم أصله العربي) لأنه كان يحافظ على الإقليم أو الثغر داخل أملاك السلطان العثماني، ولكن وجود الحكومة المركزية في القاهرة فتح الباب أمام تدخل الوزراء في تخطيط المدينة وشكلها المعماري وقواعد سير المشاة والمركبات من موقع الى آخر فيها، ودون أدنى قصد شخصي لا بد أن يتوقف كل من قلبه على النيل كمورد للحياة وموقع للنزهة ومشهد لجمال الطبيعة عند قرار وزير الإسكان بردم شق من النهر الخالد ليفسح الطريق أمام الفنادق للسيارات الكثيرة التي تقل نزلاءها منها وإليها ومن يتردد عليهم من زوار ومن في خدمتهم من رجال ونساء·· ومن العبث الترويج لهذا المشروع بدعوى تشجيع السياحة، فالسائحون الذين يدفعون الثمن الغالي في فنادق خمسة نجوم يريدون بالذات التمتع بالمشهد التاريخي الذي سيدمره المشروع، والمهم أن أحدا لم يخطر بباله ضرورة أخذ رأي القاهريين ولاسيما البسطاء منهم الذين لا يعرفون متنزها حقيقيا ومن دون تكلفة مالية إلا هذا الموقع وما يقبله من شاطئ الجزيرة ثم الجيزة·
أما المحافظ فهو في نهاية الأمر "موظف حكومة" ويمكن الاستغناء عن خدماته في أي لحظة، ومن ثم يحرص على رضا أصحاب النفوذ حتى ولو كانوا أدنى منه وظيفيا، وغاية جهد محافظ القاهرة أن يحاول تحسين حالة المرور بإنشاء كوبرى هنا ونفق هناك، وهو محصور بين فساد من هم أدنى منه ونفوذ من هم أقوى منه، وأخيرا يأتي المجلس المحلي الذي لا يملك أية موارد فيما وراء ما تعطيه له الحكومة، ولا سلطة لمن لا مال له·
ورغم ما جاء في حديث "الإصلاح" من دعوة للامركزية تفتقد القاهرة المجلس البلدي المنتخب الذي يعتمد أساسا على ما يفرضه من ضرائب أو رسوم ولا يحصل من الحكومة المركزية إلا على إعانة لمشروعات معينة، وهو بطبيعة الحال مجلس منتخب يرأسه عمدة منتخب، ومن دون هذا المجلس لا يوجد حكم محلي ولا تكون اللامركزية إلا تقسيم عمل بين موظفين كلهم خاضع للسلطة المركزية حتى إن قيل عن بعضهم إنهم مستقلون، فمن ملك التعيين يملك الفصل·
وهكذا تكاد تنفرد القاهرة بين المدن الكبرى في العالم بانعدام دور شعبها في تسيير أمورها، فلكل من المدن الآتية عمدة منتخب وله مكانة مهمة بين قادة الدولة: لندن، باريس، نيويورك، برلين، مكسيكو، بكين، نيودلهي، موسكو، روما، اسطنبول·· إلخ، وتبقى القاهرة وكأن ملايينها الكثيرة غائبة حتى في حديث جمعيات حقوق الإنسان ومن يدعون للديمقراطية! |