من المسلم به أن دعوة بوش "لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير" أثرت في بعض العرب الذين عانوا من استبداد السلطة المطلقة بشكل أو بآخر عشرات السنين فتوهموا أن الولايات المتحدة، البلد الديمقراطي منذ نشأته، تسعى فعلا لتحرير شعوبنا من القمع والقهر، ورأوا أن هذا من مصلحتها لتعزيز مكانتها العالمية باعتبارها حقا القطب الديمقراطي المهيمن بعد سقوط القطب الشمولي· وإذا كان البعض من مواطنينا قد ذهبوا بعيدا في التعويل على واشنطن لتخليصهم من حكام طغاة فاسدين تحت شعار "ولو بيد عمرو" ما دمنا عاجزين عن تحرير شعوبنا بأيدينا، فإن الكثرة ترى في التدخل الأمريكي في أمورنا ظرفا مواتيا يجدر استغلاله لتحقيق أمانينا في الحرية وفي أن يكون الشعب فعلا مصدر السلطات·
ولست بصدد الجدل السياسي مع أصحاب هذه الاتجاهات· وإنما أريد أن أبرهن على أن المحافظين الجدد الذين يسيطرون على الإدارة الأمريكية الحالية لا يريدون فرض النموذج السياسي الأمريكي على كل شعوب الأرض· ففي نظر هؤلاء العنصريين أغلب هذه الشعوب ليست في مستوى "الواسب" (البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت) ولا تستحق المساواة مع الولايات المتحدة، ولذلك فصورة الديمقراطية في رأي أهل البيت الأبيض تختلف من قطر الى آخر وهاكم مثال صارخ على ما أقول·
قال بوش إن انتخابات العراق وفلسطين نموذج رائع للديمقراطية يعطي القدوة لبقية دول المنطقة، والملاحظ أن الانتخابات في القطرين الشقيقين جرت تحت الاحتلال الأجنبي وفي جو من العنف اليومي وبمقاطعة من بعض القوى السياسية، وإذا كان هذا هو النموذج فكيف نطبقه في مصر؟
وبالمقابل أعلن بوش أن الانتخابات الإيرانية ليست ديمقراطية· وبعيدا عن تبني النموذج الإيراني لا بد أن نأخذ في الاعتبار الأمور الآتية·
1 - إن مدة رئاسة الجمهورية أربع سنوات يمكن أن تكرر مرة واحدة إجمالي ثماني سنوات وهذا مطبق بالفعل منذ قيام الجمهورية الإسلامية·
2 - إنه رغم التدخل في استبعاد بعض من تقدموا بترشيح أنفسهم (من دون ضوابط أو ضمانات) بقى في الساحة سبعة مرشحين لكل منهم وزنه وقاعدته الشعبية·
3 - إن المجتمع الإيراني حي سياسيا ونشط باستمرار وليس بمناسبة الانتخابات فقط·
وحقق بالفعل تقدما في مجالات عدة أحيانا بمجرد تجاهل الأوامر العليا (انظر: تطور الشادور من خيمة تغطي المرأة ونقاب الى ما يشبه "الملاية البلدي" التي كانت تسود أحياءنا الشعبية) مع ملاحظة أن الحجاب لم يحرم المرأة من التعليم أو العمل أو حقها السياسي في التصويت والترشيح· ومن أهم معالم المجتمع الإيراني حاليا الدور المتزايد الذي تلعبه المرأة والشباب بصفة عامة، وما يعنينا في هذا المقام هو الإقبال الشديد على صناديق الاقتراع مما ألزم الحكومة باستمرار عمل اللجان لساعتين إضافة الى الاثني عشرة ساعة المقررة أصلا· وفوق هذا كله تجرى هذه الانتخابات في دولة مستقلة سيادتها مصونة صامدة في مواجهة الضغوط رافضة كل التهديدات قادرة على الدفاع عن نفسها·
ترى أي طراز من الديمقراطية يدخره لنا بوش في جعبته وهو الذي يزعم أنه ملهم وأن قراراته موحى بها من الله سبحانه وتعالى؟ |