يجتمع الفكر العربي المعاصر حول القوة العربية ويتفرق حول سبل الوصول إليها، فتكاثرت الكتابات والأفكار أمام المثقف العربي وفي ظل هذا التمدد والتشعب للفكر العربي المعاصر أدخل الكثير من الغموض في التوجه الفكري· سنحاول هنا أن نستعرض باختصار الصورة العامة للحركات الفكرية العربية وأهدافها وبعض زواياها· كان العرب تحت الاستعمار عندما سقطت فلسطين في أيدي اليهود، واعتبر العرب أن إسرائيل مؤامرة منسوجة عليهم من قبل المستعمرين، أما انهزامهم في حرب 1967 فلم يكن هناك من يتسترون خلفهُ لذا أدت هذه الحرب إلى شرخ مؤلم وعميق إلى درجة الذل في الشخصية العربية، ولمجابهة هذا الحدث الجلل انبثق تياران الإسلامي (الإخوان) والتصحيحي (العسكري/ الاشتراكي) وللأسف تعقدت الأمور فأصبحا في تناحر على السلطة والجرح لم يدمل بعد، والتناحر مازال قائماً مشكلاً عائقاً أمام أي تقدم عربي· تحت هذا الدخان والرؤية غير الواضحة هناك تيارات آخذة بالتعاظم تشمل الكثير من الإنتلجنسيا (المفكرين والمثقفين) العرب وكذلك من القادة الفاعلين وممن سيتلونهم، وتنقسم هذه التيارات إلى ثلاث مدارس، الأولى منهمكة بإصلاح الماضي (النهضوية) والثانية بإصلاح الحاضر (الارتقائية) والثالثة بإصلاح المستقبل (البراغماتية)· أولاً: المدرسة النهضوية وهي تعتمد الوحدوية (طريق واحد: العرب والعروبة والوحدة العربية) وتستمد برامجها وفلسفتها من الماضي ولإخراج العرب من محنتهم والنهوض بهم، فهي تقوم بدراسة الهوية القومية والوحدة العربية مما تعانيه وإخراجها من سقمها، فكان من أهم الأطروحات لها أن إسرائيل وعلى الرغم من مساندة الدول الغربية لها، فهي لم تحقق حلمها الاستراتيجي من النيل إلى الفرات أو لعب دور قوة دولة إقليمية عظمى (فقط تنفرد بالفلسطينيين الضعفاء) باستعراض عضلاتها، أمام من؟ وهي للمرة الثانية تولي الأدبار من لبنان وما كان هذا إلا فشلاً على فشل· نعم يستطيع الموساد أن يغتال ذاك وذاك ولكن لا يستطيع أن يغتال أمة وعليه فمهما فعل فلا خوف· إن عدم الاعتراف بإسرائيل من عمق الشعوب العربية جعل منها كائناً غريباً غير مستحب في المنطقة، وديمقراطيتها التي تستند إلى الجنرالات ملطخة أيديهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية! أما عند تباهيها بمعلوماتها المتطورة فيتساءل المرء هنا عن كم إسرائيلي حصل على جائزة نوبل مقارنة بالعرب أو بالشعوب الأخرى· النظرة الفلسفية التي طرحت أعلاه أتت لتخرج العرب من غضبهم وشعورهم بالفشل والذل، مما يشكل أساساً يستطيع عليه العربي استيعاب البرامج النهضوية المختلفة، في هذا السياق شكلت كتابات محمد عابد الجابري الذي يرى أن الفكر النهضوي العربي ينقسم إلى تيارين رئيسيين: تيار يعطي الأولوية للوحدة ويجعل التقدم بها نتيجة من نتائجها، أما الثاني فيدعو إلى استعجال تحقيق التقدم - أو الرقي أو التمدن - في جميع المجالات، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة على الوحدة· ثانياً المدرسة الارتقائية فهي تعتمد الشمولية (أكثر من طريق) نحو التعامل بمعطيات الحاضر، فهي لا ترى في مفهوم الوحدة العربية أي مغزى فلم تكن للعرب دولة في العصر الحديث لإعادة توحيدها، ففي ضعف الدولة العثمانية كانت هناك محاولة عربية لاكتساب الخلافة وأخرى كانت تنادي بالقومية العربية (دولة- مملكة) ولكن كلاهما لم ينل الحظ بسبب الهيمنة الأجنبية التي كانت تخطط لاستعمار العرب كدول يتشاطرونها (1917 سايكس بيكو) وكان الأثر الكبير برسم الحدود بين العرب وتفريقهم وما زالت هكذا إلى ألان، أما الوحدويون فلم ينجحوا ليومنا هذا بعد كل تلك المؤتمرات واللجان بفتح أي من العوائق بين الشعوب العربية·هذا وحسب المدرسة الارتقائية فإن أي تعاون عربي يجب أن ينتهي إلى قيمة ملموسة في زمن محدد، بمعنى أن إي برنامج يجب أن يتضمن هذين المعيارين وعادةً ما تصب برامجه على الارتقاء بالإنسان العربي ضمن المعايير الاجتماعية والاقتصادية (الصحة، الدخل، العلم··) هذا وفي نفس المدرسة هناك تيارات مختلفة من أهمها: 1- التيار العلمي: الذي يشدد بأن معيار العلم هو الرائد الذي يجر كل شيء خلفهُ وهو كذلك متأصل في الأدب العربي:
العلم يبني بيوتاً لا عماد لها
والجهل يهدم بيت العز والكرم
وهذا التيار لا يقتصر على المثقفين والمفكرين العرب بل ينادي به علماؤهم وقد استعرض الدكتور أحمد زويل الحاصل جائزة نوبل عام 1999 في كتابه "عصر العلم" على برامج وخطط ودراسة متكاملة وشاملة للارتقاء بالمستوى العلمي في العالم العربي·
2- تيار المستقبل: والاهتمام هنا ينصب على الوعي بالإيمان والمقدرة لإدارة الإنسان في صناعة المستقبل المرغوب فيه وصياغته، هذا الوعي بالمستقبل فهم لصورته القادمة ويرتكز هذا التيار على البحث العلمي والإحصائي لإيجاد تلك الصورة التي من خلالها يقوم المجتمع بالتغيرات المختلفة للتعامل مع ذلك المستقبل، وهكذا فإن أبرز شروط الارتقاء هنا هو فهم طبيعة الارتقاء والاستعداد له· 3- التيار التنموي: يحتضن كل ما سبق من تيارات ويضعها رهناً لعلاج الوضع العربي، بينما هناك برامج تنموية قطرية· يدعو هذا التيار إلى برنامج تنموي شامل من قبل الدول العربية الغنية والتي تتمثل في صناديق وبنوك التنمية (مبعثرة هنا وهناك وتتعرض للأجواء السياسية من فترة إلى أخرى)، أما التيار الجديد فيجد في مشروع مارشال الأمريكي مثلاً يحتذى به، فالطرح هنا يقوم بأن يتولى زعيم عربي مؤسسة التنمية العربية بميزانية ومقدارها على سبيل المثال 150 مليار دولار تنفق على مدى 10سنين مدعومة من تحويلات نقدية مباشرة للدول العربية الغنية (النفطية) إلى هذه المؤسسة· أما المدرسة الثالثة فهي تعتمد الطرق الملتوية للوصول لهدفها، وهي مازالت في بداية تطورها وتعرف بالبراغماتية العربية على شاكلتها الأمريكية، وهي تضع الهدف الكبير نصب عينيها وتتبنى الطرق المختلفة لتأخذ مجراها للوصول لذلك الهدف، وعادةً ما يترجم دارسوها وضع العرب في موقف استراتيجي عالمي مؤثر، وأي برنامج أو مشروع يصب في هذا الهدف أو يقويه يجب دعمه حتى لو كان على حساب الغير· وهكذا فالطرح أعلاه أبرز بعض أهم الزوايا التي ينطلق منها الكثير من المفكرين والمثقفين العرب، وتراهم في المجالس وأجهزة الإعلام يتبادلون النقاش وأحياناً لحد الاحتقان ليس لأنهم مختلفون على الهدف (من حيث منزلة العرب كما يرونها بالنسبة للعالم وخصوصاً الغرب) وهنا تكمن الخطورة فإذا كان الغرب هدفا فهذا موضوع نفسي وعقدة نفسية يعاني منها العرب، أما إذا رأيناها على أنها مشكلة عربية تختلف عندئذ الوجهة والتوجه نحو علاجها وهنا يأتي الجديد فلتأت أيدي التنمويين إلى أفقر القرى العربية ولتفتح طرق البراغماتيين إلى أعلى مراكز القوى العالمية· |