رئيس التحرير: عبدالله محمد النيباري صدر العدد الاول في 22 يونيو 1962 الأربعاء 7 فبراير 2007
العدد 1761

الطيور المهاجرة
د. فاطمة البريكي
sunono@yahoo.com

كثيرون هم الأشخاص الذين نلتقيهم على نحو سريع، لكن قلة منهم هم الذين يتركون أثرًا في نفوس من يمرون بهم على الرغم من مرورهم العابر عبور النسمة·

وهؤلاء الذين نلتقيهم على هذا النحو السريع يقيمون غالبًا علاقة خفية مع ذاكرتنا، نفيًا أو إثباتًا، ولن تتجاوز هذه العلاقة الأشكال الثلاثة المحتمَلَة التالية: الأولى أن يمروا دون أن يتركوا أثرًا، فننساهم، وإذا التقيناهم قد نتذكرهم، وقد لا نتذكرهم إطلاقًا، لأنهم لم يتركوا بصمة من ذاتهم في أي زاوية من زوايا صفحة الذاكرة·

والثانية هي أن يمروا ويتركوا أثرًا فعلا، ولكن سلبيًا، بحيث لا يأتي ذكرهم إلا مصحوبًا بالاستعاذة من رؤيتهم مرة أخرى· ومثل هذه الفئة من الناس تمرّ كثيرًا علينا، مع أن مرورها عابر وسريع، إلا أنه موغل في ثقله وإزعاجه، وتبدو اللحظات في حضورهم وكأنها ساعات أو أكثر·

أما الثالثة، فهي أن يمروا ويتركوا أثرًا إيجابيًا· ومثل هؤلاء الناس الذين يمرون سريعًا على الذات والذاكرة لا يرحلون بمجرد رحيلهم المادي، أو غيابهم من أمام العين، لأن ما يتركونه من آثار تجعلهم حاضرين دائمًا، وتكون ذكراهم الطيبة أكثر حضورًا من الحضور الفعلي لأشخاص حاضرين بأجسادهم ولكنهم غائبين بإحساسهم أو بعدم تفاعلهم مع ما -ومن- حولهم·

وسأتجاوز الحالتين الأوليين، وسأتوقف عند الحالة الثالثة، التي يترك أصحابها شذى ذكراهم في العقل والقلب والنفس حتى بعد رحيلهم بوقت طويل، لأن مثل هؤلاء الناس لا بد أن يحدثوا أثرًا في شخصيات من مرّوا بهم وأعطوهم طرفًا من ذكراهم كي يظلوا متعلقين بهم دائمًا وأبدًا، حتى إن لم يلتقوا ثانية، إذ يكون ذلك اللقاء العابر متجددًا في النفس، لا ينضب معينه، ولا يجف·

أذكر في هذا قولاً لعبد الرحمن منيف وهو يتحدث عن الباهي محمد في كتابه الذي لا يستطيع شخص أن يتركه حين يمسكه ليقرأه إلا بعد أن ينتهي من آخر صفحة فيه، وهو كتاب (عروة الزمان الباهي)، حيث يقول فيه مشيرًا في حديثه إلى الباهي: إن الطيور المهاجرة لا تطيل إقامتها إلا في مواطنها، لكنها، مع ذلك، تترك آثارًا حافلة في أماكن عبورها، بحيث يتذكرها الكثيرون ما إن يعبر طائر أو تخفق نسمة·

أشخاص كثيرون نلتقي بهم على مستويات مختلفة، كأقارب بعض الجيران، أو زملاء دراسة تجمعنا بهم بضع المحاضرات، أو ضيوف نلتقي بهم عند أحد الأصدقاء، أو زملاء مهنة نلتقي بهم في الندوات والمؤتمرات، أو غيرهم من الأشخاص الذين نلتقي بهم في أي محطة حياتية يومية، وتتقلص احتمالات الالتقاء بهم مرة أخرى، ولكن من بين هؤلاء لا بد من وجود بعض الطيور المهاجرة، التي تترك في نفوسنا خاتمها الخاص ثم تذهب·

ليس لهذه الطيور المهاجرة سمات خاصة، ولا صفات مميزة، وليس لها علامة يمكن أن تساعدنا في تحديدها من البداية· والأعجب من هذا أننا بحضرة هذه الطيور لا ندرك حقيقتها، ولا يمكننا ذلك، ولكننا نبدأ تدريجيًا باستيعاب تلك الحقيقة كلما تباعدت الأيام عن ذلك اللقاء العابر، وزاد حضورها إلحاحًا وثباتًا في نفوسنا· عندها فقط، نعرف أننا كنا نجلس مع أحد تلك الطيور المهاجرة التي تحدث عنها (منيف) يومًا ما·

ولعل الذاكرة الإنسانية تؤدي في مثل هذه الحالات دورًا صعبًا جدًا، لكنها بارعة فيه جدا أيضًا؛ فهي تتعرض يوميًا، وعند بعض الناس لحظيًا، لأعداد لا تُحصى من الوجوه البشرية، والنفوس الإنسانية، ومع ذلك فإنها تظل تتذكر -من هذه الوجوه التي تلتقيها ربما مرة واحدة، وربما لدقائق فقط- بعض الوجوه بملامحها التفصيلية، وتضاريسها الداخلية، وإذا حاولت أن تفسر سر هذا الحضور الدائم، أو الحضور المباغت بين الحين والآخر قد لا تجد تفسيرًا مقنعًا، وهذا ما يحدث غالبًا؛ فالتفاسير ترفع بياض استسلامها في مثل هذه المواقف التي تعلو على أي تفسير يخضع لعقل أو منطق·

ومع أن كل إنسان يحب أن يكون أحد هذه الطيور المهاجرة، إلا أن ذلك لا يتحقق بالأماني، ولا بمجرد الرغبة في أن نكون كذلك، إنما هو أمر رباني، حباه بعضًا من خلقه، وميّزهم به عن غيرهم· لكن التشبه بتلك الطيور ومحاولة محاكاتها في سلوكها ممكن، بأن يحرص المرء منا على أن يترك أثرًا طيبًا في نفوس الناس الذين يلتقيهم حتى إن كان متأكدًا من أنه لن يراهم ولن يجتمع بهم مرة أخرى، في موقف آخر· المهم فقط أن يكون حريصًا خلال ذلك اللقاء أن يقدم أفضل ما لديه، وأن يتعالى على عيوبه وسيئاته، أو أن يخمدها، ويفسح المجال فقط لمميزاته وحسناته للظهور، ولا بد أن يكون هذا عسيرًا في البداية، ولكنه لا بد أن يصبح أمرًا ممتعًا وجميلاً في النهاية، ليأخذ تدريجيًا شكل الطبع والعادة·

بإمكان كل شخص أن يكون طيرًا مهاجرًا في مواقف ومواقع مختلفة، حتى دون أن يتبادل أي كلمة من الطرف الآخر، بسلوك طيب، أو ابتسامة دافئة، أو نظرة حنونة، أو غير ذلك، المهم فقط ألا يضنّ المرء منا على الآخرين بهذه الأمور البسيطة، وفي الوقت نفسه ألا يستهين بها، أو يستخفّ بأثرها في النفس البشرية الحسّاسة جدا لما يقوله اللسان، ولما يظهره الوجه، أو تكشف عنه الجوارح·

ربما اعتدنا على التصريح بأحاسيسنا السلبية، وانفعالاتنا الغاضبة، بسهولة أكبر، في أي موقف، مع القريب والغريب، فهو أسهل بكثير من التعبير عن الوجه الآخر للأحاسيس والمشاعر التي نحتضنها بين ضلوعنا، ولكن هذا يقلل من عدد الطيور المهاجرة بيننا، ويجعلنا نعيش حياة فيها قدر من جفاف لا يُحتمل·

وكما اعتدنا التعبير عن المشاعر السالبة، اعتدنا في المقابل أيضًا على أن نحتفظ بالكثير من أحاسيسنا وانفعالاتنا الطيبة لأنفسنا، مع أن الآخرين في حاجة لها، وهي حق من حقوقهم علينا، يجب أن نؤديها لهم، ولنا أن نطالبهم بمثلها أيضًا، وبهذا يصبح كل منا ذا أثر طيب في الآخر· وبهذا ستكثر بيننا الطيور المهاجرة التي تترك بصمتها في نفوس جميع من تمر بهم، وحينها لا بد أن يكون لذلك أثر في رقيّ مجتمعاتنا، بعد أن يصبح سلوك الأفراد فيها أقرب إلى النَفَس السماوي منه إلى الخُلُق الأرضي·

جامعة الإمارات

 sunono@yahoo.com

�����
   
�������   ������ �����
الأشقاء الأشقياء
القارئة الصغيرة
الامتلاء من أجل العطاء
كيف نسكت ضوضاء نفوسنا
التفكير من أجل التغيير
تطوير العقول أو تغييرها
تطوير العقول أو تغييرها
انتقال الحذاء من القدم إلى الرأس
الكبيرُ كبيرٌ دائمًا
إنفلونزا الطيور تعود من جديد
معنى التجربة
السلطة الذكورية في حضرة الموت
الطيور المهاجرة
"من غشنا فليس منّا"
كأنني لم أعرفه من قبل
ثلاثية الحضور والصوت والكتابة
المطبّلون في الأتراح
بين الفعل.. وردة الفعل
التواصل في رمضان
  Next Page

جدلية الخلافة - السياسية!!:
سعاد المعجل
أمن بغداد:
د.عبدالمحسن يوسف جمال
تاكسي الخميسي!:
سليمان صالح الفهد
نعم للحوار ولا للحرب:
محمد بو شهري
في انتظار جيل جديد:
فهد راشد المطيري
الأمير أعلن:
على محمود خاجه
بس.. يا طائفية!!:
محمد جوهر حيات
وزير غير عادل:
المحامي بسام عبدالرحمن العسعوسي
العنف الأسري في مملكة البحرين:
بدر عبدالمـلـك*
العرب الجدد:
عبدالله محمد سعيد الملا
لبنان ورجل الدولة:
يوسف الكندري
جريمة الفيتو الأمريكي:
عبدالله عيسى الموسوي
الطيور المهاجرة:
د. فاطمة البريكي
كي لا ننسى حقوقنا..:
خالد عيد العنزي*