لا أحد أمر أو شرع أن كل من لا يحمل معتقداتنا أو يفكر بالطريقة التي نفكر بها علينا أن نترصده ونذبحه، أو نركض وراءه ونصطاده، إلا هذه الفئة التي تستخدم النصوص الإسلامية لغير ما وضعت له، وتفهمها على هواها، فأعلنت أن كل الناس، أو كل العالم أجمع يعيشون في "جاهلية"، أي كل الناس كفرة ومشركون وملحدون، وبالتالي لا بد من ذبحهم·
بهذه الطريقة، أو بهذه الخفة، نصب هؤلاء أنفسهم ناطقين باسم الوحي الإلهي الذي لم ينزل على عقولهم الضيقة بالتأكيد فأخرجوا فهما خاصا بهم، وبمستواهم ومستوى مصالحهم، وتداولوا النصوص الإسلامية كما شاء لهم الهوى، زاعمين أن هذا هو ما تقوله "النصوص"، بينما هم يقولون وينطقون فهمهم لهذه النصوص فيصدرون أقاويل أحاطوها بالتقديس·
لم يعرف التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره هذا النوع من السفه إلا نادرا، أما ما جرى عليه العقل، فهو التمييز بين النص الأصلي، وبين فهم البشر له، سواء كانوا علماء أو غير علماء وكان العالم الجليل في أقصى ما يصل إليه أن يقول هذا هو رأيي والله أعلم·
ما نراه ونسمعه اليوم قلب للأمور، فلا يخرج صاحب الفتوى أو الرأي ليقول "هذا هو رأيي"، بل يزعم أن هذا "هو رأي الإسلام" أو "هذا هو حكم الله" وبهذا أحل هؤلاء أنفسهم محل الله سبحانه وتعالى، وصاروا يتفنون في أقاويلهم، فهذا كافر وذاك مشرك، وهذا مجتمع جاهلي، وما الى ذلك·
في جذر هذا التفكير الذي يشبه تفكير جماعة اختطفوا "الدين" وصار فهمهم له هو الفهم الوحيد، الأول والأخير، وكل من خالفهم حتى إن كان مسلما مصيره الذبح، تكمن خدعة إخفاء مسألة مهمة، في فهم طبيعة النص، فهذا الفهم، لا النص، يختلف باختلاف الأزمنة، واختلاف الكلام المتداول، ومعاني الكلمات بين الناس، فمثلا ما كان يفهمه الناس في بدايات ظهور الإسلام أن "الحكم" و"الحكمة" تعابير تتعلق بوظيفة السلطة القضائية، وليس السلطة السياسية، ولم تكن كما تفهم الآن تشير الى "الحكم" بمعناه الراهن، أي الأمر السياسي، وهناك أمر آخر تخفيه هذه الخدعة، وهي أن مستوى القارئ الثقافي والعلمي والمستوى الحضاري الذي وصل إليه يتدخل في فهمه للنص، وإنتاج معناه، وما يخرج به في النهاية لا يعدو اجتهادا بشريا يقبل الصواب والخطأ، مثلما يقبل الموافقة والتفنيد، من دون أن يكون المفند والقائل بالخطأ "كافرا" أو "جاهليا"·
هذا الإدراك الذي يفصل بين ما ينتجه المختطفون من خطابات وأقاويل وبين النص الأصلي، هو الذي سمح بالتعددية، وأعطى الثقافة الإسلامية حيويتها التي عاشت زمنا قبل أن يطمسها دعاة تكفير الناس، وملاحقتهم وذبحهم، حتى لا يكون هناك سلطان غير سلطانهم، ولا شركات أموال إلا شركاتهم. |