جماهير غفيرة رافقت بعد ظهر يوم السبت 8يوليو/تموز 2006الأستاذ أحمد إبراهيم الذوادي إلى مثواه الأخير في مقبرة المنامة عاصمة البحرين بعد أن ناهز الثامنة والستين عاما وبعد أن صارع المرض الخبيث قرابة أربعة عشر عاما، وبذلك فقد شعب البحرين علما بارزا من أعلام الحركة الوطنية ومناضلا بلا هوادة ضد الاستعمار البريطاني ومن أجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، وقد تعرض خلال سنوات نضاله التي قاربت النصف قرن إلى الاعتقال والنفي عدة مرات وإلى الحرمان من العمل ومن لقمة العيش، وفي الخارج عرفه قادة أحزاب ودول عربية وأجنبية من الخليج والبلدان العربية والأجنبية باسمه المستعار سيف بن علي الأمين العام لجبهة التحرير الوطني البحرانية، والمناضل في الحركة العمالية العالمية وحركة التضامن بين شعوب البلدان الأفريقية والآسيوية وحركة السلم العالمية قبل أن يعود إلى البحرين بعد بدء الإصلاحات ليستعيد اسمه الحقيقي ومعه "حزبه" العلني ليصبح أول أمين عام للمنبر الديمقراطي التقدمي الذي يشكل امتدادا تاريخيا للجبهة·
استقبلته حشود الجماهير عندما عاد إلى وطنه عام2001 شديد الحماس للدفع بالعملية الإصلاحية التي أطلقها جلالة الملك ومفعما بالتفاؤل التاريخي الذي لازمه طوال حياته، ويوم رأى كيف رفعت جماهير جزيرة سترة سيارة الأمير (آنذاك) تعبيرا عن تأييدها للإصلاح علق على ذلك بقوله إن الناس التي كانت تخاف من الأمير تخاف عليه الآن· وأثناء رئاسته للمنبر طرح ورفاقه سياسة ربما وجدت الانتقاد من جانب قوى في الحكم وفي المعارضة على السواء، لكنها ظلت ثابتة في نهج القيادات اللاحقة للمنبر الديمقراطي واجتازت امتحان الزمن لتثبت اليوم أنها السياسة الصحيحة الممكنة، فالتراجعات التي حدثت من جانب السلطة وردود الفعل العكسية تماما من جانب بعض قوى المعارضة التي أدت إلى مقاطعة الانتخابات النيابية عام 2002 قابلتهما سياسة واقعية من جانب المنبر بموقف شديد النقد لتراجعات الحكم، وحرص في نفس الوقت على الاستفادة من المساحة المتاحة بهدف توسيعها، ولم يكن هذا الموقف ضروريا لنزع توتر الاستقطاب الحاد بين السلطة والمعارضة فقط، بل وللحيلولة دون وقوع البرلمان كلية فريسة لقوى تنزع به نحو الاستقطابات الطائفية وتبتعد به عن القضايا الحياتية التي تهم الجماهير ومستقبل البلاد السياسي، واليوم، ورغم تراجع الأوضاع عما كانت عليه عام 2002بسبب حزمة القوانين المقيدة للحريات فإن المعارضة تجمع على أن المشاركة هي السياسة الصحيحة الممكنة· لكن أحمد لن يشهد، للأسف، تجسيد هذا الإجماع في الواقع العملي في الانتخابات البرلمانية القادمة·
وفي كل الحالات ظل أحمد الذوادي سواء في قيادة المنبر أو العضوية العادية في لجانه بعد أن اشتد به المرض يلعب دورا جوهريا في النضال دون اتساع الشرخ الطائفي في المجتمع أو تراجع العملية الإصلاحية فيه وتضييق هامش الاختلاف بين القوى السياسية، بل وتوظيف هذا الاختلاف لخدمة الأهداف العامة بشكل تكاملي ( كالتكامل بين العمل البرلماني وغير البرلماني)· وكان يرى في هذه الأوجه جوانب الوحدة الوطنية التي ظلت بالنسبة له هاجسا منذ أيام مقارعة سياسة "فرق تسد" الاستعمارية البريطانية· لكن من المفارقات أن يفارقنا أحمد الذوادي وهو يتوق إلى أن يجسد رفاقه في المنبر وحدتهم الداخلية صفا إلى جانب وحدتهم فكرا وهدفا·
انشغل الفقيد الذوادي كثيرا بالهم الخليجي المشترك، وقد اشترك في هذا الهم مع قادة وطنيين آخرين من بينهم الفقيد عبد الله عبد الرزاق باذيب مؤسس حزب اتحاد الشعب الشقيق لجبهة التحرير الوطني البحرانية· وكانت عناوين أهم وأكثر أعماله الكتابية في الستينات في هذا الصدد تساؤلية: "مشاريع الاستعمار في الخليج العربي إلى أين؟" "ماذا يجري في الخليج العربي ؟" ·· إلخ ، وفي متن هذه الأعمال يحاول طرح الإجابات·
وبعد انتخابات أول مجلس تشريعي في البحرين، حيث اتخذ الذوادي ورفاقه في جبهة التحرير موقف المشاركة النقدية كما هو الحال الآن، كتب محللا نتائج انتخابات عام1973 ليبين أنها تعكس، كما المرآة، اصطفافات وتوازنات المجتمع البحرين آنذاك·
أحمد الذوادي الذي تربى في حزب عرف جيدا كيف يجمع بين أشكال النضال المختلفة أو اختيار الشكل المناسب منها في الزمان والمكان المناسبين، عرف أيضا كيف يوازن بين طرح النقد الحاد نظريا وتحقيق الإنجاز الممكن عمليا دون الدفع بالأمور إلى حدودها القصوى التي يصعب التحكم فيها بعد ذلك، لكن همه في كتاباته في داخل البحرين انصب عمليا على قضايا بناء دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة، وفضح ومحاربة حالات الفساد ونهب المال العام المتفشية في مختلف أجهزة الدولة·
ردود الفعل المذهولة على وفاته المتوقعة بينت أن الناس من الخفير إلى الوزير كلها شعرت بأن حدثا جللا قد ألم وأن خسارة كبرى وقعت، لا يعوضها إلا وفاء الوطن بإحياء ذكراه بالقدر الرفيع الذي هو عليه، وأن سيرة حياته يجب أن تدرس لأجيالنا القادمة لتتعلم من صانع الحياة صياغة حياة المستقبل·
من شدة تعلق أبي قيس بالحياة أنه ضرب، على الأقل من وجهة نظر طبيبه، رقما قياسيا في صراعه مع السرطان الذي تعب قبل أن يصرع أبا قيس، طبيبه اعترف لأطباء آخرين أنه رغم الخطورة التي بلغتها حالة هذا الرجل العنيد، إلا أنه يبدي مقاومة كما لا يبدها أحد من قبل·
ajnoaimi@gmail.com |